حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم ، من كل أمر يقدح فيهم. ولا يحتاج إلى دليل ، على فساد ما قيل فيهم ، من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، تستلزم دفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة ، يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ، أي : يمتنع ذلك ، ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته. ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان ، أو متاعا ، أو غير ذلك ، يعذب به يوم القيامة. (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ، الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره ، على مقدار كسبه. (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم. وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة ، لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان اقتصاره على الغال ، يوهم ـ بالمفهوم ـ أن غيره من أنواع العاملين ، قد لا يوفون ـ أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.
[١٦٢ ـ ١٦٣] يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان الله ، والعمل على ما يرضيه ، كمن ليس كذلك ، ممن هو مكب على المعاصي ، مسخط لربه ، هذان لا يستويان في حكم الله ، وحكمة الله ، وفي فطر عباد الله. (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨). ولهذا قال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ، أي : كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم. فالمتبعون لرضوان الله ، يسعون في نيل الدرجات العاليات ، والمنازل والغرفات ، فيعطيهم الله من فضله وجوده ، على قدر أعمالهم ، والمتبعون لمساخط الله ، يسعون في النزول في الدركات ، إلى أسفل سافلين ، كل على حسب عمله ، والله بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه منها شيء ، بل قد علمها ، وأثبتها في اللوح المحفوظ ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام ، أن يكتبوها ويحفظوها ، ويضبطوها.
[١٦٤] هذه المنة التي امتن بها على عباده ، أكبر النعم ، بل أصلها ، وهي الامتنان عليهم ، بهذا الرسول الكريم ، الذي أنقذهم الله به ، من الضلالة ، وعصمهم به ، من الهلكة ، فقال : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، يعرفون نسبه ، وحاله ، ولسانه ، من قومهم وقبيلتهم ، ناصحا لهم ، مشفقا عليهم. (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) يعلمهم ألفاظها ومعانيها. (وَيُزَكِّيهِمْ) من الشرك ، والمعاصي ، والرذائل ، وسائر مساوئ الأخلاق. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ، فيكون قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) المراد به الآيات الكونية. [أو المراد بالكتاب ـ هنا ـ الكتابة ، فيكون قد امتن عليهم ، بتعليم الكتاب والكتابة ، التي بها تدرك العلوم وتحفظ. (وَالْحِكْمَةَ) هي : السنة ، التي هي شقيقة القرآن ، ووضع الأشياء مواضعها ، ومعرفة أسرار الشريعة. فجمع لهم ، بين تعليم الأحكام ، وما به تنفيذ الأحكام ، وما به تدرك فوائدها وثمراتها ، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة ، جميع المخلوقين ، وكانوا من العلماء الربانيين. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) بعثة هذا الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها ، بل ما يزين لهم جهلهم فعلوه ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين. هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين ، حين أصابهم ما أصابهم يوم «أحد» وقتل منهم نحو سبعين ، فقال