يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) من شدة رغبتهم فيه ، وحرصهم عليه (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، فالله ناصر دينه ، ومؤيد رسوله ، ومنفذ أمره من دونهم ، فلا تبالهم ولا تحفل بهم ، إنما يضرون ، ويسعون في ضرر أنفسهم ، بفوات الإيمان في الدنيا ، وحصول العذاب الأليم في الأخرى ، من هوانهم على الله ، وسقوطهم من عينه ، وإرادته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة ، ثوابه خذلهم فلم يوفقهم ، لما وفق إليه أولياءه ، ومن أراد به خيرا ، عدلا منه وحكمة ، لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى ، ولا قابلين للرشاد ، لفساد أخلاقهم وسوء قصدهم.
[١٧٧] ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان ، ورغبوا فيه ، رغبة من بذل ما يحب من المال ، في شراء ما يحب من السلع (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، بل ضرر فعلهم ، يعود على أنفسهم ، ولهذا قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وكيف يضرون الله شيئا ، وهم قد زهدوا أشد الزهد في الإيمان ، ورغبوا كل الرغبة بالكفر بالرحمن؟ فالله غني عنهم. وقد قيض لدينه من عباده الأبرار الأزكياء سواهم ، وأعد له ـ ممن ارتضاه لنصرته ـ أهل البصائر والعقول ، وذوي الألباب من الرجال الفحول. قال الله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (١٠٧) الآيات.
[١٧٨] أي : ولا يظن الذين كفروا بربهم ، ونابذوا دينه ، وحاربوا رسوله أن تركنا إياهم في هذه الدنيا ، وعدم استئصالنا لهم ، وإملائنا لهم ـ خير لأنفسهم ـ ، ومحبة منا [لهم] (١). كلا ، ليس الأمر كما زعموا ، وإنما ذلك لشر ، يريده الله بهم ، وزيادة عذاب وعقوبة إلى عذابهم ، ولهذا قال : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). فالله تعالى يملي للظالم ، حتى يزداد طغيانه ، ويترادف كفرانه ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. فليحذر الظالمون من الإمهال ، ولا يظنوا ، أن يفوتوا الكبير المتعال.
[١٧٩] أي : ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط ، وعدم التمييز ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، والمؤمن من المنافق ، والصادق من الكاذب. ولم يكن في حكمته أيضا ، أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من عباده ، فاقتضت حكمته الباهرة ، أن يبتلي عباده ، ويفتنهم بما به يتميز الخبيث من الطيب ، من أنواع الابتلاء والامتحان ، فأرسل الله رسله ، وأمر بطاعتهم ، والانقياد لهم ، والإيمان بهم ، ووعدهم ـ على الإيمان والتقوى ـ الأجر العظيم. فانقسم الناس ـ بحسب اتباعهم للرسل ـ قسمين : مطيعين وعاصين ، ومؤمنين ومنافقين ، ومسلمين وكافرين. ليرتب على ذلك الثواب والعقاب ، وليظهر عدله وفضله ، وحكمته لخلقه.
[١٨٠] أي : ولا يظن الذين يبخلون ، أي : يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله ، من المال ، والجاه ، والعلم ، وغير ذلك مما منحهم الله ، وأحسن إليهم به ، وأمر هم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده ، فبخلوا بذلك ،
__________________
(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.