عاما حقيقيا ـ صار نافعا ، فأحدث لهم خشية الله ، وخضوعهم لجلاله ، الموجب للانقياد لأوامره ونواهيه ، والوقوف عند حدوده. وهؤلاء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة ، كما قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ، ومن تمام خشيتهم لله ، أنهم (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً). [فلا يقدمون الدنيا على الدين ، كما فعل أهل الانحراف الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليلا] (١). وأما هؤلاء ، فعرفوا الأمر على الحقيقة ، وعلموا أن من أعظم الخسران ، الرضا بالدون عن الدين ، والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية ، وترك الحق ، الذي هو : أكبر حظ وفوز ، من الدنيا والآخرة ، فآثروا الحق ، وبينوه ، ودعوا إليه ، وحذروا عن الباطل. فأثابهم الله على ذلك ، بأن وعدهم الأجر الجزيل ، والثواب الجميل ، وأخبرهم بقربه ، وأنه سريع الحساب ، فلا يستبطئوا ما وعدهم الله ، لأن ما هو آت ، محقق حصوله ، فهو قريب. ثم حض المؤمنين ، على ما يوصلهم إلى الفلاح ـ وهو : الفوز بالسعادة والنجاح ، وأن الطريق الموصل إلى ذلك ، لزوم الصبر ، الذي هو حبس النفس على ما تكرهه ، من ترك المعاصي ، ومن الصبر على المصائب ، وعلى الأوامر الثقيلة على النفوس ، فأمرهم بالصبر على جميع ذلك. والمصابرة هي : الملازمة والاستمرار على ذلك ، على الدوام ، ومقاومة الأعداء في جميع الأحوال ، والمرابطة وهي : لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه ، وأن يراقبوا أعداءهم ، ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم ، لعلهم يفلحون : يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والأخروي ، وينجون من المكروه كذلك. فعلم من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة المذكورات ، فلم يفلح من أفلح ، إلا بها ، ولم يفت أحد ، الفلاح إلا بالإخلال بها أو ببعضها. والله الموفق ولا حول ولا قوة إلا به. تم تفسير «سورة آل عمران» والحمد لله على نعمته ، ونسأله تمام النعمة.
تفسير سورة النساء
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[١] افتتح تعالى هذه السورة ، بالأمر بتقواه ، والحث على عبادته ، والأمر بصلة الأرحام ، والحث على ذلك.
وبيّن السبب الداعي ، الموجب لكل من ذلك ، وأن الموجب لتقواه أنه (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ورزقكم ، ورباكم بنعمه العظيمة ، التي من جملتها خلقكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) ليناسبها ، فيسكن إليها ، وتتم بذلك النعمة ،
__________________
(١) سقط من المطبوعة التي بين أيدينا ، وهو موافق للسياق.