استقروا عليه ، غير الطاعة ، لأن التبييت ، تدبير الأمر ليلا ، على وجه يستقر عليه الرأي. ثم توعدهم على ما فعلوا فقال : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي : يحفظه عليهم ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم. ثم أمر رسوله ، بمقابلتهم بالإعراض ، وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئا ، إذا توكل على الله ، واستعان به ، في نصر دينه ، وإقامة شرعه. ولهذا قال : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).
[٨٢] يأمر تعالى بتدبر كتابه ، وهو : التأمل في معانيه ، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادثه وعواقبه ، ولوازم ذلك. فإن في تدبر كتاب الله مفتاحا للعلوم والمعارف ، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم. وبه يزداد الإيمان في القلب ، وترسخ شجرته. فإنه يعرف بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ؛ وما ينزه عنه من سمات النقص.
ويعرف الطريق الموصلة إليه ، وصفة أهلها ، وما لهم عند القدوم عليه. ويعرف العدو ، الذي هو العدو على الحقيقة ؛ والطريق الموصلة إلى العذاب ؛ وصفة أهلها ؛ وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه ، ازداد علما ، وعملا ، وبصيرة. ولذلك أمر الله بذلك ، وحث عليه ، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن ، كما قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩). وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤). ومن فوائد التدبير لكتاب الله : أنه بذلك ، يصل العبد إلى درجة اليقين ، والعلم بأنه كلام الله ، لأنه يراه ، يصدق بعضه بعضا ، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والأخبار ، تعاد في القرآن ؛ في عدة مواضع ، كلها متوافقة متصادقة ، لا ينقض بعضها بعضا. فبذلك يعلم كمال القرآن ، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور. فلذلك قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي : فلما كان من عند الله ؛ لم يكن فيه اختلاف أصلا.
[٨٣] هذا تأديب من الله لعباده ، عن فعلهم هذا ، غير اللائق. وأنه ينبغي لهم ، إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة ، والمصالح العامة ، ما يتعلق بالأمن ، وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم ، أن يتثبتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر. بل يردونه إلى الرسول ، وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي ، والعلم والنصح ، والعقل ، والرزانة ، الّذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين ، وسرورا لهم ، وتحرزا من أعدائهم ، فعلوا ذلك. وإن رأوا ما فيه مصلحة ، أو فيه مصلحة ، ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه. ولهذا قال : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي : يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة ، وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية ، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ، ينبغي أن يولّى من هو أهل لذلك ، ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع ، لنشر الأمور ، من حين سماعها. والأمر بالتأمل قبل الكلام ، والنظر فيه ، هل هو مصلحة ، فيقدم عليه الإنسان ، أم لا؟ فيحجم عنه؟ ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي : في توفيقكم ، وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون. (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) لأن الإنسان بطبعه ، ظالم