[١٠٠] هذا في بيان الحث على الهجرة ، والترغيب ، وبيان ما فيها من المصالح ، فوعد الصادق في وعده ، أن من هاجر في سبيله ، ابتغاء مرضاته ، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة ، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين والسعة على مصالح الدنيا. وذلك أن كثيرا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتا بعد الألفة ، وفقرا بعد الغنى ، وذلا بعد العز ، وشدة بعد الرخاء. والأمر ليس كذلك ، فإن المؤمن ، ما دام بين أظهر المشركين ، فدينه في غاية النقص ، لا في العبادات القاصرة عليه ، كالصلاة ونحوها ، ولا في العبادات المتعدية ، كالجهاد بالقول والفعل ، وتوابع ذلك ، لعدم تمكنه من ذلك ، وهو بصدد أن يفتن عن دينه ، خصوصا ، إن كان مستضعفا. فإذا هاجر في سبيل الله ، تمكّن من إقامة دين الله ، وجهاد أعداء الله ، ومراغمتهم. فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله ، من قول وفعل. وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه ، وقد وقع كما أخبر الله تعالى. واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم ، وأولادهم ، وأموالهم لله ، كمل بذلك إيمانهم ، وحصل لهم من الإيمان التام ، والجهاد العظيم ، والنصر لدين الله ، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم. وكذلك حصل لهم ، ما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم ، ما كانوا به أغنى الناس. وهكذا كل من فعل فعلهم ، يحصل له ما حصل لهم ، إلى يوم القيامة. ثم قال : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : قاصدا ربه ، ورضاه ، ومحبته لرسوله ، ونصرا لدين الله ، لا لغير ذلك من المقاصد. (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بقتل أو غيره. (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : فقد حصل له أجر المهاجر ، الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى. وذلك ، لأنه نوى وجزم ، وحصل منه ابتداء ، وشروع في العمل. فمن رحمة الله به وبأمثاله ، أن أعطاهم أجرهم كاملا ، ولو لم يكملوا العمل وغفر لهم ، ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها. ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر للمؤمنين ، ما اقترفوه من الخطيئات ، خصوصا ، التائبين المنيبين إلى ربهم. (رَحِيماً) بجميع الخلق ، رحمة أوجدتهم وعافتهم ، ورزقتهم من المال والبنين والقوة ، وغير ذلك. رحيما بالمؤمنين ، حيث وفقهم للإيمان ، وعلمهم من العلم ، ما يحصل به الإيقان ، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح ، وما به يدركون غاية الأرباح. وسيرون من رحمته وكرمه ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فنسأل الله ، أن لا يحرمنا خيره ، بشر ما عندنا.
[١٠١] هاتان الآيتان ، أصل في رخصة القصر ، وصلاة الخوف. يقول تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : في السفر ، وظاهر الآية ، أنه يقتضي الترخيص في أي سفر كان ، ولو كان سفر معصية ، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمهالله ، وخالف في ذلك الجمهور ، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم ، فلم يجوزوا الترخيص في سفر المعصية ، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة ، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده ، إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا. والعاصي بسفره ، يناسب حاله التخفيف. وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي : لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك. ولا ينافي ذلك ، كون القصر هو الأفضل ، لأن نفي الحرج ، إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس. بل ولا ينافي الوجوب ، كما تقدم ذلك في سورة البقرة ، في قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة ، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين ، وجوبها على هذه الصفة التامة ، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم ، إلا بذكر ما ينافيه. ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران : أحدهما : ملازمة النبي صلىاللهعليهوسلم على القصر في جميع أسفاره. والثاني : أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد. والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته. وقوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ولم يقل أن تقصروا الصلاة ، فيه فائدتان : إحداهما : أنه لو قال أن تقصروا الصلاة ، لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود. فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة ، وجعلها ركعة واحدة ، لأجزأه. فإتيانه بقوله : (مِنَ الصَّلاةِ) ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط ، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه. الثانية : أن «من» تفيد التبعيض ، ليعلم بذلك أن القصر لبعض