دفعه ، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق. فذكر هما لفضلهما ، وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما ، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف ـ لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين ـ لم يقل : وسوف يؤتيهم أجرا عظيما ، مع أن السيئات فيهم. بل قال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً). لأن هذه القاعدة الشريفة ـ لم يزل الله يبدىء فيها ويعيد ، إذا كان السياق في بعض الجزئيات ، وأراد أن يرتب عليه ثوابا أو عقابا وكان ذلك مشتركا بينه وبين الجنس الداخل فيه. رتب الثواب ، في مقابلة الحكم العام ، الذي تندرج تحته ، تلك القضية وغيرها. ولئلا يتوهم اختصاص الحكم ، بالأمر الجزئي ، فهذا من أسرار القرآن البديعة. فالتائب من المنافقين ، مع المؤمنين ، وله ثوابهم.
[١٤٧] ثم أخبر تعالى ، عن كمال غناه ، وسعة حلمه ، ورحمته وإحسانه فقال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال ، الدائبين في الأعمال ؛ جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئا لله ، أعطاه الله خيرا منه. ومع هذا ، يعلم ظاهركم وباطنكم ، وأعمالكم ، وما تصدر عنه من إخلاص وصدق ، وضد ذلك. وهو يريد التوبة والإنابة منكم والرجوع إليه. فإذا أنبتم إليه ، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم ، ولا ينتفع بعقابكم. بل العاصي لا يضر إلا نفسه ، كما أن عمل المطيع لنفسه. والشكر هو : خضوع القلب ، واعترافه بنعمة الله ، وثناء اللسان على المشكور. وعمل الجوارح بطاعته ، وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.
[١٤٨] يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه. ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين. وقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه. ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) ولما كانت الآية ، قد اشتملت على الكلام السيّء ، والحسن ، والمباح ، أخبر تعالى ، أنه سميع ، فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن (عَلِيماً) بنياتكم ومصدر أقوالكم.
[١٤٩] ثم قال تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) وهذا يشمل كل خير ، قولي ، وفعلي ، ظاهر ، وباطن ، من واجب ، ومستحب. (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي : عمّن أساء إليكم في أبدانكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله ، عفا الله عنه ، ومن أحسن ، أحسن الله إليه ، فلهذا قال : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي : يعفو عن زلات عباده ، وذنوبهم العظيمة. فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام ، الصادر عن قدرته. وفي هذه الآية ، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر ، صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام ، بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء ، رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه ، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) إلى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
[١٥٠] هنا قسمان ، قد وضحا لكل أحد : مؤمن بالله ، وبرسله كلهم ، وكتبه ، وكافر بذلك كله. وبقي قسم ثالث : وهو : الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل ، دون بعض ، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله ، إن هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء ، يريدون التفريق بين الله وبين رسله توليه. فإن من تولى الله حقيقة ، تولى جميع رسله ، لأن ذلك من تمام توليه. ومن عادى أحدا من رسله ، فقد عادى الله ، وعادى جميع رسله كما قال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ)