وَعَدُوَّكُمْ). وقال تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) فالغلظة الشديدة على أعداء الله ، مما يقرب العبد إلى الله ، ويوافق العبد ربه ، في سخطه عليهم. ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة ، دعوتهم ، إلى الدين الإسلامي ، بالتي هي أحسن. فتجتمع الغلظة عليهم ، واللين في دعوتهم ، وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم. (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) بأموالهم وأنفسهم ، بأقوالهم وأفعالهم. (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين. وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم ، فإن ضعيف القلب ، ضعيف الهمة ، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين ، وتفتر قوته ، عند عذل العاذلين. وفي قلوبهم تعبد لغير الله ، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم ، على أمر الله. فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله ، حتى لا يخاف في الله لومة لائم. ولما مدحهم تعالى بما منّ به عليهم من الصفات الجميلة ، والمناقب العالية ، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير ـ أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه ، لئلا يعجبوا بأنفسهم ، وليشكروا الذي منّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله ، وليعلم غيرهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب ، فقال : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي : واسع الفضل والإحسان ، جزيل المنن ، قد عمت رحمته كل شيء ، ويوسع على أوليائه من فضله ، ما لا يكون لغيرهم. ولكنه عليم بمن يستحق الفضل ، فيعطيه ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.
[٥٥] لما نهى عن ولاية الكفار ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين ، أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه. وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ). فولاية الله ، تدرك بالإيمان والتقوى. فكل من كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، ومن كان لله وليا ، فهو ولي لرسوله. ومن تولى الله ورسوله ، كان تمام ذلك ، تولي من تولاه ، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ، ظاهرا وباطنا ، وأخلصوا للمعبود ، بإقامتهم الصلاة ، بشروطها ، وفروضها ، ومكملاتها ، وأحسنوا للخلق ، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم. وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) أي : خاضعون لله ذليلون. فأداة الحصر في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين ، والتبري من ولاية غيرهم.
[٥٦] ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) أي : فإنه من الحزب المضافين إلى الله ، إضافة عبودية وولاية ، وحزبه الغالبون ، الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣). وهذه بشارة عظيمة ، لمن قام بأمر الله ، وصار من حزبه وجنده ، أن له الغلبة. وإن أديل عليه في بعض الأحيان ، لحكمة يريدها الله تعالى ، فآخر أمره ، الغلبة والانتصار ، ومن أصدق من الله قيلا.
[٥٧] ينهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار ؛ أولياء ، يحبونهم ، ويتولونهم ، ويبدون لهم أسرار المؤمنين ، ويعاونونهم على بعض أمورهم ، التي تضر الإسلام والمسلمين. وأن ما معهم من الإيمان ، يوجب عليهم ترك موالاتهم ، ويحثهم على معاداتهم. وكذلك التزامهم لتقوى الله ، التي هي امتثال أوامره ، واجتناب زواجره مما يدعوهم إلى معاداتهم. وكذلك ما كان عليه المشركون ، والكفار والمخالفون للمسلمين ، من قدحهم في دين المسلمين ، واتخاذهم إياه هزوا ولعبا ، واحتقاره واستصغاره ، خصوصا الصلاة ، التي هي أظهر شعائر المسلمين ، وأجل عباداتهم.
[٥٨] إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا ، وذلك لعدم عقلهم ، ولجهلهم العظيم. وإلا فلو كان لهم عقول ، لخضعوا لها ، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس. فإذا علمتم ـ أيها المؤمنون ، حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم ـ فمن لم يعادهم بعد هذا ، دل على أن الإسلام عنده ، رخيص ، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه ، أو قدح بالكفر والضلال ، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء. فكيف تدعي لنفسك دينا قيما ، وأنه الدين الحق ؛ وما سواه باطل ، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا ، وسخر به وبأهله ، من أهل الجهل