الخير والإحسان ، والبر. (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) وهذا دعاء عليهم ، بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم ، بالبخل ، وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم. فكانوا أبخل الناس ، وأقلهم إحسانا ، وأسوأهم ظنا بالله ، وأبعدهم عن رحمته ، التي وسعت كل شيء ، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي. ولهذا قال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) لا حجر عليه ، ولا مانع يمنعه ، مما أراد. فإنه تعالى ، قد بسط فضله ، وإحسانه الديني والدنيوي ، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده ، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه ، بمعاصيهم. فيده سحاء الليل والنهار ، وخيره في جميع الأوقات مدرارا. يفرج كربا ، ويزيل غما ، ويغني فقيرا ، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا ، ويجيب سائلا ، ويعطي فقيرا عائلا ، ويجيب المضطرين ، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله ، ويعافي من طلب العافية ، ولا يحرم من خيره عاصيا. بل خيره ، يرتع فيه البر والفاجر ، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال. ثم يحمدهم عليها ، ويضيفها إليهم ، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ، ما لا يدركه الوصف ، ولا يخطر على بال العبد. ويلطف بهم في جميع أمورهم ، ويوصل إليهم من الإحسان ، ويدفع عنهم عن النقم ما لا يشعرون بكثير منه. فسبحان من كل النعم ، التي بالعباد ، فمنه ، وإليه يجأرون في دفع المكاره. وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه. وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين ، بل ولا وجود لهم ، ولا بقاء إلا بجوده. وقبّح الله من استغنى بجهله عن ربه ، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله. بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة ، ونحوهم ممن حاله كحالهم ، ببعض قولهم ، لهلكوا ، وشقوا في دنياهم. ولكنهم يقولون تلك الأقوال ، وهو تعالى ، يحلم عنهم ، ويصفح ، ويمهلهم ، ولا يهملهم. وقوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً). وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله ، الذي فيه حياة القلب والروح ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وفلاح الدارين ، الذي هو أكبر منه ، امتن الله بها على عباده ، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها ، والاستسلام لله بها ، وشكرا لله عليها ، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه ، وطغيان إلى طغيانه ، وكفر إلى كفره. وذلك ، بسبب ، إعراضه عنها ، ورده لها ، ومعاندته إياها ، ومعارضته لها ، بالشبه الباطلة. (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فلا يتألفون ، ولا يتناصرون ، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم. بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم ، متعادين بأفعالهم ، إلى يوم القيامة. (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) ليكيدوا بها الإسلام وأهله ، وأبدوا ، وأعادوا ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم (أَطْفَأَهَا اللهُ) بخذلانهم ، وتفرق جنودهم ، وانتصار المسلمين عليهم. (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض. أي : بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يبغضهم أشد البعض ، وسيجازيهم على ذلك.
[٦٥] ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٦٥).