فاحِشَةً) وهي : كل ما يستفحش ويستقبح ، ومن ذلك : طوافهم بالبيت عراة. (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) ، وصدقوا في هذا. (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وكذبوا في هذا ، ولهذا رد الله عليهم هذه النسبة فقال : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي : لا يليق بكماله وحكمته ، أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش ، لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره. (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وأي افتراء أعظم من هذا.
[٢٩] ثم ذكر ما يأمر به فقال : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل في العبادات والمعاملات ، لا بالظلم والجور. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : توجهوا إلى الله ، واجتهدوا في تكميل العبادات ، خصوصا «الصلاة» أقيموها ، ظاهرا وباطنا ، ونقوها من كل نقص ومفسد. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : قاصدين بذلك وجهه وحده لا شريك له. والدعاء يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة أي : لا تريدوا ولا تقصدوا من الأغراض في دعائكم ، سوى عبودية الله ورضاه. (كَما بَدَأَكُمْ) أول مرة (تَعُودُونَ) للبعث ، فالقادر على بدء خلقكم ، قادر على إعادته ، بل الإعادة ، أهون من البدء.
[٣٠] (فَرِيقاً) منكم (هَدى) الله ، أي : وفقهم للهداية ، ويسر لهم أسبابها ، وصرف عنهم موانعها. (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي : وجبت عليهم الضلالة ، بما تسببوا لأنفسهم ، وعملوا بأسباب الغواية. (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، فقد خسر خسرانا مبينا. فحين انسلخوا من ولاية الرحمن ، واستحبوا ولاية الشيطان ، حصل لهم النصيب الوافر ، من الخذلان ، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) لأنهم انقلبت عليهم الحقائق ، فظنوا الباطل حقا ، والحق باطلا. وفي هذه الآيات ، دليل على أن الأوامر والنواهي ، تابعة للحكمة والمصلحة ، حيث ذكر تعالى ، أنه لا يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ، وأنه لا يأمر إلا بالعدل والإخلاص ، وفيه دليل على أن الهداية ، بفضل الله ومنه ، وأن الضلالة بخذلانه للعبد ، إذ تولى ـ بجهله وظلمه ـ الشيطان ، وتسبب لنفسه بالضلال. وأن من حسب أنه مهتد ، وهو ضال ، فإنه لا عذر له ، لأنه متمكن من الهدى ، وإنما أتاه حسبانه ، من ظلمه بترك الطريق الموصل إلى الهدى.
[٣١] يقول تعالى ـ بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا ـ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : استروا عوراتكم عند الصلاة كلها ، وفرضها ونفلها ، فإن سترها زينة للبدن ، كما أن كشفها ، يدع البدن قبيحا مشوها. ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ، ما فوق ذلك ، من اللباس النظيف الحسن ، ففي هذا ، الأمر بستر العورة في الصلاة ، وباستعمال التجميل فيها ، ونظافة السترة من الأدناس والأنجاس. ثم قال : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : مما رزقكم الله من الطيبات (وَلا تُسْرِفُوا) في ذلك. والإسراف ، إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي ، ولشره في المأكولات التي تضر بالجسم ، وإما أن يكون بزيادة الترفه والتنوق في المآكل ، والمشارب ، واللباس ، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فإن السرف يبغضه الله ، ويضر بدن الإنسان ومعيشته ، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات ، ففي هذه الآية الكريمة ، الأمر بتناول الأكل والشرب ، والنهي عن تركهما ، وعن الإسراف فيهما.
[٣٢] يقول تعالى ـ منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل الله من الطيبات ـ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) من أنواع اللباس ، على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ، ومشرب ، بجميع أنواعه ، أي : من هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الله على العباد ، ومن ذا الذي يضيق عليهم ، ما وسعه الله؟ وهذا التوسيع من الله لعباده ، بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : لا تبعة عليهم فيها. ومفهوم الآية ، أن من لم يؤمن بالله ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها ، وعلى التنعم بها ، ويسأل عن النعيم يوم القيامة. (كَذلِكَ