(٤٨). وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم ، كذب منهم ، مقصودهم به ، دفع ما حل بهم ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حين فوتوها الأرباح ، وسلكوا بها سبيل الهلاك ، وليس ذلك كخسران الأموال والأثاث ، أو الأولاد ، إنّما هذا خسران ، لا جبران لمصابه ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) في الدنيا ، مما تمنيهم أنفسهم به ، ويعدهم به الشيطان ، قدموا على ما لم يكن لهم في حساب ، وتبين لهم باطلهم وضلالهم ، وصدق ما جاءتهم به الرسل.
[٥٤] يقول تعالى ، مبينا أنه الرب المعبود وحده لا شريك له (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما فيهما ، على عظمهما وسعتهما ، وإحكامهما ، وإتقانهما ، وبديع خلقهما. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها : يوم الأحد ، وآخرها ، يوم الجمعة ، فلما قضاهما ، وأودع فيهما من أمره ما أودع (اسْتَوى) تبارك وتعالى (عَلَى الْعَرْشِ) العظيم ، الذي يسع السموات والأرض ، وما فيهما ، وما بينهما ، استوى ، استواء يليق بجلاله ، وعظمته ، وسلطانه ، فاستوى على العرش ، واحتوى على الممالك ، وأجرى عليهم أحكامه الكونية ، وأحكامه الدينية ، ولهذا قال : (يُغْشِي اللَّيْلَ) المظلم (النَّهارَ) المضيء ، فيظلم ما على وجه الأرض ، ويسكن الآدميون ، وتأوي المخلوقات إلى مساكنها ، ويستريحون من التعب ، والذهاب والإياب ، الذي حصل لهم في النهار. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) كلما جاء الليل ، ذهب النهار ، وكلما جاء النهار ، ذهب الليل ، وهكذا أبدا ، على الدوام ، حتى يطوي الله هذا العالم ، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره وتدبيره ، الدال على ما له من أوصاف الكمال ، فخلقها وعظمها ، دال على كمال قدرته ، وما فيها من الإحكام والانتظام والإتقان ، دال على كمال حكمته ، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها ، دال على سعة رحمته وعلمه ، وأنه الإله الحقّ ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي : له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها ، وسفليها ، أعيانها ، وأوصافها ، وأفعالها ، والأمر المتضمن للشرائع والنبوات. فالخلق : يتضمن أحكامه الكونية القدرية ، والأمر : يتضمن أحكامه الدينية الشرعية ، وثمّ أحكام الجزاء ، وذلك يكون في دار البقاء. (تَبارَكَ اللهُ) أي : عظم وتعالى ، وكثر خيره وإحسانه ، فتبارك في نفسه ، لعظمة أوصافه وكمالها ، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل ، والبر الكثير ، فكل بركة في الكون ، فمن آثار رحمته ، ولهذا قال : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).
[٥٥] ولما ذكر من عظمته وجلاله ، ما يدل ذوي الألباب على أنه وحده ، المعبود المقصود في الحوائج كلها ، أمر بما يترتب على ذلك فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) إلى (مِنَ الْمُحْسِنِينَ). الدعاء : يدخل فيه ، دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فأمر بدعائه (تَضَرُّعاً) أي : إلحاحا في المسألة ، ودؤوبا في العبادة ، (وَخُفْيَةً) أي : لا جهر أو علانية ، يخاف منه الرياء ، بل خفية ، وإخلاصا لله تعالى. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : المتجاوزين للحد في كل الأمور ، ومن الاعتداء : كون العبد يسأل الله مسائل ، لا تصلح له ، أو ينقطع في السؤال ، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ،