الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل ، ومن لم يؤدها بل خانها ، استحق العقاب الوبيل ، وصار خائنا لله وللرسول ولأمانته ، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات ، وأقبح الشيات ، وهي الخيانة ، مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها ، وهي : الأمانة. ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده ، فربما حملته محبته ذلك ، على تقديم هوى نفسه ، على أداء أمانته ، أخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده ، وأنهما عارية ، ستؤدى لمن أعطاها ، وترد لمن استودعها (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). فإن كان لكم عقل ورأي ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة ، فالعاقل يوازن بين الأشياء ، ويؤثر أولاها بالإيثار ، وأحقها بالتقديم.
[٢٩] امتثال العبد لتقوى ربه ، عنوان السعادة ، وعلامة الفلاح ، وقد رتب الله على التقوى من خير الدنيا والآخرة ، شيئا كثيرا. فذكر هنا ، أن من اتقى الله ، حصل له أربعة أشياء ، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها : الأول : الفرقان وهو : العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال ، والحقّ والباطل ، والحلال والحرام ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة. الثاني والثالث : تكفير السيئات ، ومغفرة الذنوب ، وكل واحد منها داخل في الآخر ، عند الإطلاق وعند الاجتماع. يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع : الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، لمن اتقاه ، وآثر رضاه على هوى نفسه. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
[٣٠] أي : (وَ) اذكر ، أيها الرسول ، ما منّ الله به عليك. (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين تشاور المشركون في دار الندوة ، فيما يصنعون بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ، ويوثقوه. وإما أن يقتلوه فيستريحوا ـ بزعمهم ـ من دعوته. وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم. فكلّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه. فاتفق رأيهم ، على رأي رآه شريرهم ، أبو جهل لعنه الله ، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش ، فتى ويعطوه سيفا صارما ، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ، ليتفرق دمه في القبائل ، فيرضى بنو هاشم ثمّ بديته ، فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش ، فترصدوا للنبي صلىاللهعليهوسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه. فجاء الوحي من السماء وخرج عليهم ، فذرّ على رؤوسهم التراب وخرج ، وأعمى الله أبصارهم عنه ، حتى إذا استبطؤوه ، جاءهم آت وقال : خيبكم الله ، قد خرج محمد وذرّ على رؤوسكم التراب. فنفض كل منهم التراب عن رأسه ، ومنع الله رسوله منهم ، وأذن له في الهجرة إلى المدينة. فهاجر إليها ، وأيده الله بأصحابه المهاجرين والأنصار ، ولم يزل أمره يعلو حتى دخل مكة عنوة ، وقهر أهلها ، فأذعنوا له ، وصاروا تحت حكمه ، بعد أن خرج مستخفيا منهم ، خائفا على نفسه. فسبحان اللطيف بعباده الذي لا يغالبه مغالب.
[٣١] يقول تعالى ـ في بيان عناد المكذبين للرسول صلىاللهعليهوسلم : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الدالة على صدق ما جاء به الرسول. (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وهذا من عنادهم وظلمهم ، وإلا فقد تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله ، ويدعوا من استطاعوا من دون الله ، فلم يقدروا على ذلك ، وتبين عجزهم. فهذا