القول الصادر من هذا القائل ، مجرد دعوى ، كذبه الواقع. وقد علم أنه صلىاللهعليهوسلم أمّيّ ، لا يقرأ ولا يكتب ، ولا رحل ليدرس من أخبار الأولين ، فأتى بهذا الكتاب الجليل ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
[٣٢] (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يدعو إليه محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب. فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحقّ معه ، إن كان هذا هو الحقّ من عندك ، فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم. فمذ قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، علم بمجرد قولهم ، أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون. فلو عاجلهم الله بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب ، بسبب وجود الرسول بين أظهرهم فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).
[٣٣ ـ ٣٤] فوجوده صلىاللهعليهوسلم أمنة لهم من العذاب. وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رؤوس الأشهاد ، يدرون بقبحها فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون الله تعالى فلهذا قال : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه. ثمّ قال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أي : أي شيء يمنعهم من عذاب الله ، وقد فعلوا ما يوجب ذلك وهو صد الناس عن المسجد الحرام ، خصوصا صدهم النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، الّذين هم أولى به منهم. ولهذا قال : (وَما كانُوا) أي المشركون (أَوْلِياءَهُ) يحتمل أن الضمير يعود إلى الله ، أي : أولياء الله. ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام ، أي : وما كانوا أولى به من غيرهم ، (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) وهم الّذين آمنوا بالله ورسوله ، وأفردوا الله بالتوحيد والعبادة ، وأخلصوا له الدين ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلذلك ادّعوا لأنفسهم أمرا ، غيرهم أولى به.
[٣٥] يعني أن الله تعالى إنّما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه ، وتخلص له فيه العبادة. فالمؤمنون هم الّذين قاموا بهذا الأمر ، وأما هؤلاء المشركون الّذين يصدون عنه ، فما كانت صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، أي صفيرا وتصفيقا ، فعل الجهلة الأغبياء ، الّذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم ، ولا معرفة بحقوقه ، ولا احترام لأفضل البقاع وأشرفها ، فإذا كانت هذه صلاتهم فيه ، فكيف ببقية العبادات؟ فبأي شيء كانوا أولى بهذا البيت من المؤمنين ، الّذين هم في صلاتهم خاشعون ، والّذين هم عن اللغو معرضون ، إلى آخر ما وصفهم الله به من الصفات الحميدة ، والأفعال السديدة. لا جرم ، أورثهم الله بيته الحرام ، ومكنهم منه. وقال ـ بعد ما مكن لهم منه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وقال هنا :
(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
[٣٦ ـ ٣٧] يقول تعالى مبينا عداوة المشركين ، وكيدهم ، ومكرهم ، ومبارزتهم لله ولرسوله ، وسعيهم في إطفاء