مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر ، وهو : يوم النحر ، وقت اجتماع الناس ، مسلمهم وكافرهم ، من جميع جزيرة العرب ، أن يؤذن بأن الله بريء ورسوله من المشركين ، فليس لهم عنده عهد وميثاق ، فأينما وجدوا قتلوا ، وقيل لهم : لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا ، وكان سنة تسع من الهجرة. وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأذن ببراءة يوم النحر ، ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثمّ رغّب تعالى المشركين بالتوبة ، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ). أي : فائتيه ، بل أنتم في قبضته ، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم مفظع في الدنيا ، بالقتل ، والأسر ، والجلاء ، وفي الآخرة ، بالنار ، وبئس القرار.
[٤] أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) واستمروا على عهدهم ، ولم يجر منهم ما يوجب النقص ، فلا نقصوكم شيئا ، ولا عاونوا عليكم أحدا ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، قلّت ، أو كثرت ، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنّما يأمر بالوفاء. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الّذين أدوا ما أمروا به ، واتقوا الشرك والخيانة ، وغير ذلك من المعاصي.
[٥] يقول تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي : التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين ، وهي أشهر التسيير الأربعة ، وتمام المدة ، لمن له مدة أكثر منها ، فقد برئت منهم الذمة. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان وزمان ، (وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) أي : ضيقوا عليهم ، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله وأرضه ، التي جعلها معبدا لعباده. فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها ، ولا يستحقون منها شبرا ، لأن الأرض أرض الله ، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله ، والمحاربون الّذين يريدون أن تخلو الأرض من دينه ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ولو كره الكافرون. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي : كل ثنية وموضع يمرون عليه ورابطوا في جهادهم ، وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك ، ولا تزالوا على هذا الأمر ، حتى يتوبوا من شركهم. ولهذا قال : (فَإِنْ تابُوا) من شركهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : أدوها بحقوقها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) لمستحقيها (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : اتركوهم ، وليكونوا مثلكم ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الشرك فما دونه ، للتائبين ، ويرحمهم ، بتوفيقهم للتوبة ، ثمّ قبولها منهم. وفي هذه الآية دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة ، فإنه يقاتل حتى يؤديها ، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
[٦] لما كان ما تقدم من قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أمرا عاما في جميع الأحوال ، وفي كل الأشخاص منهم ، ذكر تعالى أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم ، جاز ، بل وجب ذلك فقال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) أي : طلب منك أن تجيره ، وتمنعه من الضرر ، لأجل أن يسمع كلام الله ، وينظر حالة الإسلام. (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ثمّ إن أسلم ، فذاك ، وإلا