وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فزال عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فاستضاؤوا بها مؤقتا وانتفعوا ، فحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم كذلك ، إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار ، وبئس القرار. فلهذا قال تعالى عنهم : (صُمٌ) ، أي : عن سماع الخير ، (بُكْمٌ) ، أي : عن النطق به ، (عُمْيٌ) ، أي : عن رؤية الحق ، (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه ، فلا يرجعون إليه ، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال ، فإنه لا يعقل ، وهو أقرب رجوعا منهم. ثم قال تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، أي : كصاحب صيب وهو المطر الذي يصوب ، أي : ينزل بكثرة ، (فِيهِ ظُلُماتٌ) ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، (وَرَعْدٌ) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب ، (وَبَرْقٌ) وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب ، (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) البرق في تلك الظلمات (مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) ، أي : وقفوا. فهكذا حالة المنافقين ، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، جعلوا أصابعهم في آذانهم ، وأعرضوا عن أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، فيروعهم وعيده ، وتزعجهم وعوده ، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت ، فهذا ربما حصلت له السلامة. وأما المنافقون ، فأنى لهم السلامة ، وهو تعالى محيط بهم ، قدرة وعلما ، فلا يفوتونه ولا يعجزونه ، بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم والبكم ، والعمى المعنوي ، ومسدودة عليهم طرق الإيمان ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ، أي : الحسيّة ، ففيه تخويف لهم وتحذير من العقوبة الدنيوية ، ليحذروا ، فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء ، ومن قدرته ، أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها ، رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى ، لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
[٢١] هذا أمر عام لجميع الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦). ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ،