شيئين : الشك في هذا القرآن والامتراء منه. وأشد من ذلك ، التكذيب به ، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه ، ورتب على هذا الخسار وهو : عدم الربح أصلا ، وذلك بفوات الثواب ، في الدنيا والآخرة ، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، فيكون أمرا بالتصديق التام بالقرآن ، وطمأنينة القلب إليه ، والإقبال عليه علما وعملا. فبذلك يكون العبد من الرابحين الّذين أدركوا أجل المطالب ، وأفضل الرغائب ، وأتم المناقب ، وانتفى عنهم الخسار.
[٩٦ ـ ٩٧] يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : إنهم من الضالين الغاوين أهل النار ، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه ، فلا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية ، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا ، وغيّا إلى غيهم. وما ظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق لما جاءهم أول مرة ، فعاقبهم الله بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم ، وأبصارهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الذي وعدوا به. فحينئذ يعلمون حق اليقين ، أن ما هم عليه هو الضلال ، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحقّ. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئا ، فيومئذ لا ينفع الّذين ظلموا معذرتهم ، ولا هم يستعتبون ، وأما الآيات ، فإنها تنفع من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد.
[٩٨] يقول تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ) من قرى المكذبين (آمَنَتْ) حين رأت العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) أي : لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه ، حين رأى العذاب ، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبا ، لما قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١). وكما قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ). وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا). والحكمة في هذا ظاهرة ، فإن الإيمان الاضطراري ، ليس بإيمان حقيقة ، ولو صرف عنه العذاب ، والأمر الذي اضطره إلى الإيمان ، لرجع إلى الكفران. وقوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) بعد ما رأوا العذاب ، (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) فهم مستثنون من العموم السابق. ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة ، لم تصل إلينا ، ولم تدركها أفهامنا. قال الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١٣٩) إلى قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨) ، ولعل الحكمة في ذلك أن غيرهم من المهلكين ، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وأما قوم يونس ، فإن الله أعلم أن إيمانهم سيستمر ، بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه ، والله أعلم.
[٩٩] يقول تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بأن يلهمهم الإيمان ، ويوزع قلوبهم للتقوى ، فقدرته صالحة لذلك ، ولكنه اقتضت حكمته ، أن كان بعضهم مؤمنين ، وبعضهم كافرين. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لا تقدر على ذلك ، وليس في إمكانك ، ولا قدرة لغير الله على شيء من ذلك.
[١٠٠] (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته ومشيئته ، وإذنه القدري الشرعي ، فمن كان من الخلق قابلا لذلك ، ويزكو عنده الإيمان ، وفقه وهداه. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي : الشر والضلال (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) عن الله أوامره ونواهيه ، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.
[١٠١] يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السموات والأرض. والمراد بذلك : نظر الفكر والاعتبار والتأمل ، لما فيها وما تحتوي عليه والاستبصار ، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، وعبرا لقوم يوقنون ، تدل على أن الله وحده المعبود المحمود ، ذو الجلال والإكرام ، والأسماء والصفات العظام. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.
[١٠٢] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : فهل ينتظر هؤلاء الّذين لا يؤمنون بآيات الله