هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلىاللهعليهوسلم ، قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ، وفي مقام تنزيل القرآن عليه ، فقال : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١).
[٢٤] وفي قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين ـ وإن ارتكبوا بعض الكبائر ـ لا يخلدون في النار ، لأنه قال :
(أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) ، فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها. ولما ذكر جزاء الكافرين ، ذكر جزاء المؤمنين ، أهل الأعمال الصالحات ، كما هي طريقته تعالى في كتابه ، يجمع بين الترغيب والترهيب ، ليكون العبد راغبا راهبا ، خائفا راجيا ، فقال :
[٢٥] (وَبَشِّرِ) ، أي : أيها الرسول ، ومن قام مقامك ، (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بجوارحهم ، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. ووصفت أعمال الخير بالصالحات ، لأن بها تصلح أحوال العبد ، وأمور دينه ودنياه ، وحياته الدنيوية والأخروية ، ويزول بها عنه فساد الأحوال ، فيكون بذلك من الصالحين ، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشّرهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) ، أي : بساتين جامعة للأشجار العجيبة ، والثمار الأنيقة ، والظل المديد ، والأغصان والأفنان ، وبذلك صارت جنة ، يجتن بها داخلها ، وينعم فيها ساكنها. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، أي : أنهار الماء ، واللبن ، والعسل ، والخمر ، يفجرونها كيف شاؤوا ، ويصرفونها أين أرادوا ، وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، أي : هذا من جنسه ، وعلى وصفه ، كلها متشابهة في الحسن واللذة ، ليس فيها ثمرة خاسّة ، وليس لهم وقت خال من اللذة ، فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، قيل : متشابها في الاسم ، مختلفا في الطعم ، وقيل : متشابها في اللون ، مختلفا في الاسم ، وقيل : يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة ، ولعل هذا أحسن. ثم لما ذكر مسكنهم ، وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ، ذكر أزواجهم ، فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه ، وأوضحه فقال : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) فلم يقل «مطهرة من العيب الفلاني» ليشمل جميع أنواع التطهير ، فهن مطهرات الأخلاق ، مطهرات الخلق ، مطهرات اللسان ، مطهرات الأبصار ، فأخلاقهن ، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن ، وحسن التبعل ، والأدب القولي والفعلي ، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني ، والبول والغائط ، والمخاط والبصاق ، والرائحة الكريهة ، ومطهرات الخلق أيضا ، بكمال الجمال ، فليس فيهن عيب ، ولا دمامة خلق ، بل هن خيرات حسان ، مطهرات اللسان والطرف ، قاصرات طرفهن على أزواجهن ، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة ، ذكر المبشر ، والمبشّر به ، والسبب الموصل لهذه البشارة ، فالمبشّر : هو الرسول صلىاللهعليهوسلم ومن قام مقامه من أمته ، والمبشّر : هم المؤمنون العاملون الصالحات ، والمبشّر به : هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات ، والسبب الموصل لذلك ، هو الإيمان والعمل الصالح ، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة ، إلا بهما ، وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق ، بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها ، فإنها بذلك تخف وتسهل ، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح ، فذلك أول البشارة وأصلها ، ومن بعده ، البشرى عند الموت ، ومن بعده ، الوصول إلى هذا النعيم المقيم ، نسأل الله من فضله.
[٢٦] يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) ، أي : أيّ مثل كان (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأنّ في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في