الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك ، فليس في ذلك محل اعتراض ، بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم ، فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر ، ولهذا قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فيفهمونها ، ويتفكرون فيها. فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون ، إيمانا على إيمانهم. ولهذا قال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، فهذا حال المؤمنين والكافرين عند نزول تلك الآيات القرآنية. قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) ، فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا ، تكون لقوم محنة ، وحيرة ، وضلالة ، وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة ، ورحمة ، وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر حكمته وعدله في إضلاله من يضل فقال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن طاعة الله ؛ المعاندين لرسل الله ؛ الّذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان ، وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الآية.
[٢٧] ثم وصف الفاسقين ، فقال : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ، وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين ربهم ؛ والذي بينهم وبين الخلق ؛ الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات ، فلا يبالون بتلك المواثيق ، بل ينقضونها ويتركون أوامره ، ويرتكبون نواهيه ، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ، وهذا يدخل في أشياء كثيرة ، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به ، والقيام بعبوديته ، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ، ومحبته ، وتعزيره ، والقيام بحقوقه ، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب ، والأصحاب ، وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله أن نصلها. فأما المؤمنون ، فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ؛ وقاموا بها أتم القيام ، وأما الفاسقون ، فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة ، والعمل بالمعاصي ، وهو : الإفساد في الأرض. (أُولئِكَ) ، أي : من هذه صفته (هُمُ الْخاسِرُونَ) ، في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ؛ لأن كل عمل صالح ، شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له ، وهذا الخسار هو خسار الكفر ، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) ،