فهذا عام لكل مخلوق ، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وحقيقته فوات الخير ، الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
[٢٨] ثم قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) ، هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار ، أي : كيف يحصل منكم الكفر بالله ، الذي خلقكم من العدم ؛ وأنعم عليكم بأصناف النعم ، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ، ويجازيكم في القبور ، ثم يحييكم بعد البعث والنشور ، ثم إليه ترجعون ، فيجازيكم الجزاء الأوفى. فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبرّه ، وتحت أوامره الدينية ، وبعد ذلك تحت دينه الجزائي ، أفيليق بكم أن تكفروا به ، وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير؟ بل الذي يليق بكم أن تتقوه ، وتشكروه ، وتؤمنوا به ، وتخافوا عذابه ، وترجوا ثوابه.
[٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي : خلق لكم برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع ، والاعتبار. وفي هذه الآية الكريمة ، دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك ، الخبائث فإن تحريمها أيضا ، يؤخذ من فحوى الآية ، وبيان المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك. ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث تنزيها لنا. وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
معاني كلمة «استوى»
(اسْتَوى) : ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها : الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) ، وتارة تكون بمعنى «علا» و «ارتفع» وذلك إذا عديت ب «على» كقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) ، (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) ، وتارة تكون بمعنى «قصد» كما إذا عديت ب «إلى» كما ي هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات ، فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، وهو بكل شيء عليم ، فيعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، و (يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ، ويعلم السرّ وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه ، وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته.
[٣٠] (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليهالسلام أبي البشر ، وفضله ، وأن الله تعالى ـ حين أراد خلقه ـ أخبر الملائكة بذلك ، وأن الله مستخلفه في الأرض ، فقالت الملائكة عليهمالسلام : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) ، وهذا تخصيص بعد تعميم ، لبيان شدة مفسدة القتل ، وهذا بحسب ظنهم أن المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك ، فنزهوا الباري عن ذلك ، وعظموه ، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة ، فقالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ، أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك ، (وَنُقَدِّسُ لَكَ) يحتمل أن معناها : ونقدسك ، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ، ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا ، أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة ، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة. قال الله للملائكة : (إِنِّي أَعْلَمُ) من هذا الخليفة (ما لا تَعْلَمُونَ) ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم ، وأنا عالم بالظواهر والسرائر ، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر. فلو لم يكن في ذلك ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصدّيقين ،