علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر.
[٣٥] لما خلق الله آدم وفضله ، أتم نعمته عليه ، بأن خلق منه زوجه ، ليسكن إليها ، ويستأنس بها ، وأمرهما بسكنى الجنة ، والأكل منها رغدا ، أي : واسعا هنيئا ، (حَيْثُ شِئْتُما) ، أي : من أصناف الثمار والفواكه ، وقال الله له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩). (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) نوع من أنواع شجر الجنة ، الله أعلم به ، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء ، أو لحكمة غير معلومة لنا ، (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) دل على أن النهي للتحريم ، لأنه رتب الظلم عليه. فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ، ويزين لهما تناول ما نهيا عنه ، حتى أزلّهما ، أي : حملهما على الزلل بتزيينه ، (وَقاسَمَهُما) بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ، فاغترّا به وأطاعاه ، فأخرجهما مما كانا فيه ، من النعيم والرغد ، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
[٣٦] (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، أي : آدم وذريته ، أعداء لإبليس وذريته ، ومن المعلوم أن العدو يجدّ ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشرّ إليه بكل طريق ، وحرمانه الخير بكل طريق ، ففي ضمن هذا ، تحذير بني آدم من الشيطان ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) ، (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). ثم ذكر منتهى الإهباط ، فقال : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) ، أي : مسكن وقرار ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) انقضاء آجالكم ، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها ، وخلقت لكم ، ففيها أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ، ليست مسكنا حقيقيا ، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار ، ولا تعمر للاستقرار.
[٣٧] (فَتَلَقَّى آدَمُ) ، أي : تلقف وتلقن ، وألهمه الله (مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ، وهي قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ، فاعترف بذنبه ، وسأل الله مغفرته (فَتابَ) الله (عَلَيْهِ) ، ورحمه (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) لمن تاب إليه وأناب. وتوبته نوعان : توفيقه أولا ، ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. (الرَّحِيمُ) بعباده ، ومن رحمته بهم ، أن وفقهم للتوبة ، وعفا عنهم وصفح.
[٣٨] كرّر الإهباط ، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي : وقت وزمان جاءكم مني ، يا معشر الثقلين ، هدىّ ، أي : رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ، ويدنيكم مني ، ويدنيكم من رضائي ، (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) منكم ، بأن آمن برسلي وكتبي ، واهتدى بهم ، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب ، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وفي الآية الأخرى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء : نفي الخوف والحزن ، والفرق بينهما ، أن المكروه إن كان قد مضى ، أحدث الحزن ، وإن كان منتظرا أحدث الخوف ، فنفاهما عمن اتبع الهدى ، وإذا انتفيا ثبت ضدهما ، وهو الهدى والسعادة ،