موحدين مقيمين الصلاة ، لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية ، فمن أقامها ، كان مقيما لدينه ، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي : تحبهم ، وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه. فأجاب الله دعاءه ، فأخرج من ذرية إسماعيل ، محمدا صلىاللهعليهوسلم ، حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي ، وإلى ملة أبيهم إبراهيم ، فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة. وافترض الله حج هذا البيت ، الذي أسكن به ذرية إبراهيم ، وجعل فيه سرا عجيبا ، جاذبا للقلوب ، فهي تحجه ، ولا تقضي منه وطرا على الدوام ، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ، ازداد شوقه ، وعظم ولعه وتوقه ، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فأجاب الله دعاءه ، فصار يجبى إليه ، ثمرات كل شيء ، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت ، والثمار فيها متوفرة ، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب.
[٣٨] (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : أنت أعلم بنا منا ، فنسألك من تدبيرك وتربيتك لنا ، أن تيسر لنا من الأمور التي نعلمها ، والتي لا نعلمها ، ما هو مقتضى علمك ورحمتك ، (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ومن ذلك هذا الدعاء الذي لم يقصد به الخليل إلا الخير ، وكثرة الشكر لله رب العالمين.
[٣٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) فذلك من أكبر النعم ، وكونه على الكبر ، في حال الإياس من الأولاد ، نعمة أخرى ، وكونهم أنبياء صالحين ، أجلّ وأفضل ، (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي : لقريب الإجابة ، ممن دعاه ، وقد دعوته ، ولم يخيب رجائي.
[٤٠ ـ ٤١] ثمّ دعا لنفسه ولذريته. فقال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١) ، فاستجاب الله له في ذلك كله ، إلا أن دعاءه لأبيه ، إنّما كان من موعدة وعده إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله ، تبرأ منه.
[٤٢] ثمّ قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). هذا وعيد شديد للظالمين ، وتسلية للمظلومين. يقول تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) حيث أمهلهم وأدرّ عليهم الأرزاق ، وتركهم يتقلبون في البلاد ، آمنين مطمئنين ، فليس في هذا ما يدل على حسن حالهم ، فإن الله يملي للظالم ويمهله ، ليزداد إثما ، حتى إذا أخذه ، لم يفلته (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢) ، والظلم ـ هاهنا ـ يشمل الظلم فيما بين العبد وربه ، وظلمه لعباد الله ، (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : لا تطرف من شدة ما ترى ، من الأهوال وما أزعجها من القلاقل.
[٤٣] (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله للحساب ، لا امتناع لهم ولا محيص ، ولا ملجأ ، (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي : رافعيها قد غلّت أيديهم إلى الأذقان ، فارتفعت لذلك ، رؤوسهم ، (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي : أفئدتهم فارغة من قلوبهم ، قد صعدت إلى الحناجر ، لكنها مملوءة من كل هم وغم ، وحزن وقلق.