بصرف شيء من العبادات إلى بعض المخلوقات ، التي هي عبيد لله ، فكما أنهم يكرهون ، ولا يرضون أن يكون عبيدهم ـ وهم مخلوقون من جنسهم ـ شركاء لهم فيما رزقهم الله ، فكيف يجعلون له شركاء من عبيده؟!! (وَ) هم ـ مع هذه الإساءة العظيمة ـ (تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي : أن لهم الحالة الحسنة في الدنيا والآخرة ، فرد عليهم بقوله : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) مقدمون إليها ، ماكثون فيها ، غير خارجين منها أبدا. بيّن تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، أنه ليس هو أول رسول كذّب فقال تعالى :
[٦٣] (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) رسلا يدعونهم إلى التوحيد ، (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فكذبوا الرسل ، وزعموا أن ما هم عليه ، هو الحق المنجي من كل مكروه ، وأن ما دعت إليه الرسل ، فهو بخلاف ذلك ، فلما زين لهم الشيطان أعمالهم. صار (وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) في الدنيا ، فأطاعوه ، واتبعوه ، وتولوه. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، حيث تولوا ، عن ولاية الرحمن ، ورضوا بولاية الشيطان ، فاستحقوا لذلك ، عذاب الهوان.
[٦٤] يقول تعالى : وما أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن ، إلا لتبين للناس الحق ، فيما كان موضع اختلافهم ، من التوحيد ، والقدر ، وأحكام الأفعال وأحوال المعاد ، وليكون هداية تامة ، ورحمة عامة ، لقوم يؤمنون بالله ، وبالكتاب الذي أنزله.
[٦٥] يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره ، فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود ، الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، لأنه المنعم بإنزال المطر ، وإنبات جميع أصناف النبات ، وعلى أنه على كل شيء قدير ، وأن الذي أحيا الأرض بعد موتها ، قادر على إحياء الأموات ، وأن الذي نشر هذا الإحسان ، لذو رحمة واسعة ، وجود عظيم.
[٦٦] أي : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) التي سخرها الله لمنافعكم (لَعِبْرَةً) تستدلون بها على كمال قدرة الله ، وسعة إحسانه ، حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم ، فأخرج من بين ذلك ، لبنا خالصا من الكدر سائغا للشاربين ، للذته ، ولأنه يسقي ويغذي ، فهل هذه إلا قدرة ، إلهية ، لا أمور طبيعية. فأي شيء في الطبيعة ، يقلب العلف الذي تأكله البهيمة ، والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح ، لبنا خالصا سائغا للشاربين؟
[٦٧] وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب ، منافع للعباد ، ومصالح ، من أنواع الرزق الحسن ، الذي يأكله العباد ، طريّا ونضيجا ، وحاضرا ، ومدخرا ، وطعاما وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها ، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك ، ثم إن الله نسخ حلّ المسكرات ، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة ، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة ولهذا قال من قال : «إن المراد بالسكر هنا : الطعام والشراب اللذيذ» وهو أولى من القول الأول. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الله كمال اقتداره ، حيث أخرجها من أشجار شبيهة بالحطب ، فصارت ثمرة لذيذة وفاكهة طيبة ، وعلى شمول رحمته ، حيث عم بها عباده ويسرها لهم ، وأنه الإله المعبود وحده ، حيث إنه المنفرد