والمثلات ، ومن لم يؤمن بربه ، ولم يتولاه ، خسر دينه ودنياه ، فثوابه الدنيوي والأخروي ، خير ثواب يرجى ويؤمل. ففي هذه القصة العظيمة ، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته ، وعصى الله فيها ، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال ، وأنه وإن تمتع بها قليلا ، فإنه يحرمها طويلا ، وأن العبد ، ينبغي له ـ إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده ـ أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها ، وأن يقول : «ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله» ليكون شاكرا متسببا لبقاء نعمته عليه ، لقوله : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). وفيها ، الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها ، بما عند الله من الخير لقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) ، وفيها أن المال والولد لا ينفعان ، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً). وفيه الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضّل نفسه بسببه ، على المؤمنين ، وفخر عليهم. وفيها ، أن ولاية الله وعدمها ، إنما تتضح نتيجتها ، إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم ف (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) أي : عاقبة ومالا.
[٤٥ ـ ٤٦] يقول تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم ، أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ، ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، أو تنبت من كل زوج بهيج. فبينا زهرتها ، وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما ، تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب. كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها ، قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله. فذهب عنه سروره ، وزالت لذته ، وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته ، وماله وانفرد بصالح ، أو سيىء أعماله. هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات. فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : «قدّري أنك قد متّ ، ولا بد أن تموتي ، فأي الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ظليل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟» ، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه. ولهذا أخبر تعالى ، أن المال والبنين ، زينة الحياة الدنيا ، أي : ليس وراء ذلك شيء ، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره ، الباقيات الصالحات. وهذا يشمل جميع الطاعات ، الواجبة ، والمستحبة ، من حقوق الله ، وحقوق عباده ، من صلاة ، وزكاة ، وصدقة ، وحج ، وعمرة ، وتسبيح ، وتحميد ، وتهليل ، وقراءة ، وطلب علم نافع ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصلة رحم ، وبر الوالدين ، وقيام بحق الزوجات ، والمماليك ، والبهائم ، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق ، كل هذا من الباقيات الصالحات ، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا ، فثوابها يبقى ، ويتضاعف على الآباد ، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها ، عند الحاجة ، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون ، ويستبق إليها العاملون ، ويجدّ في تحصيلها المجتهدون. وتأمل ، كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ، ذكر أن الذي فيها نوعان : نوع من زينتها ، يتمتع به قليلا ، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه ، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون. ونوع يبقى لصاحبه على الدوام ، وهي : الباقيات الصالحات.
[٤٧ ـ ٤٩] يخبر تعالى عن حال يوم القيامة ، وما فيه من الأهوال المقلقة ، والشدائد المزعجة فقال : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ