العذاب قد أقبل عليهم ، ورأوه مقابلة ومعاينة ، أي : فليخافوا من ذلك ، وليتوبوا من كفرهم ، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.
[٥٦] أي : لم نرسل الرسل عبثا ، ولا ليتخذهم الناس أربابا ، ولا ليدعوا إلى أنفسهم ، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير ، وينهون عن كل شر ، ويبشرونهم على امتثال ذلك ، بالثواب العاجل ، والآجل ، وينذرونهم على معصية ذلك ، بالعقاب العاجل ، والآجل ، فقامت بذلك حجة الله على العباد ، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون ، إلا المجادلة بالباطل ، ليدحضوا به الحق ، فسعوا في نصر الباطل ، مهما أمكنهم ، وفي إدحاض الحق وإبطاله ، واستهزؤوا برسل الله وآياته ، وفرحوا بما عندهم من العلم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، ويظهر الحق على الباطل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، ومن حكمة الله ورحمته ، أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق بالباطل ، من أعظم الأسباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته ، وتبين الباطل وفساده ، فبضدها تتبين الأشياء.
[٥٧] يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما ، ولا أكبر جرما ، من عبد ذكّر بآيات الله وبيّن له الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، وخوّف ورهّب ورغّب ، فأعرض عنها ، فلم يتذكر بما ذكّر به ، ولم يرجع عما كان عليه ، ونسي ما قدمت يداه من الذنوب ، ولم يراقب علام الغيوب ، فهذا أعظم ظلما ، من المعرض الذي لم تأته آيات الله ، ولم يذكر بها ، وإن كان ظالما ، فإنه أشد ظلما من هذا ، لكون العاصي على بصيرة وعلم ، أعظم ممن ليس كذلك. ولكن الله تعالى ، عاقبه بسبب إعراضه عن آياته ، ونسيانه لذنوبه ، ورضاه لنفسه ، حالة الشر ، مع علمه بها أن سد عليه أبواب الهداية ، بأن جعل على قلبه أكنة ، أي : أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعها ، فليس في إمكانه ، الفقه الذي يصل إلى القلب. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي : صمما يمنعهم من وصول الآيات ، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإن كانوا بهذه الحالة ، فليس لهدايتهم سبيل. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى ، من ليس عالما ، وأما هؤلاء ، الّذين أبصروا ثم عموا ، ورأوا طريق الحق فتركوه ، وطريق الضلال فسلكوه ، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها ، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق. وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه ، أن يحال بينهم وبينه ، ولا يتمكن منه بعد ذلك ، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
[٥٨ ـ ٥٩] ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته ، وأنه يغفر الذنوب ، ويتوب الله على من يتوب ، فيتغمده برحمته ، ويشمله بإحسانه ، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب ، لعجل لهم العذاب ، ولكنه تعالى ، حليم لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل ، ولا يهمل ، والذنوب لا بد من وقوع آثارها ، وإن تأخرت عنها مدة طويلة ، ولهذا قال : (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي : لهم موعد ، يجازون فيه بأعمالهم ، لا بد لهم منه ، ولا مندوحة لهم عنه ، ولا ملجأ ، ولا محيد عنه. وهذه سنته في الأولين والآخرين ، أن لا يعاجلهم بالعقاب ، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة ، فإن تابوا وأنابوا ، غفر لهم ورحمهم ، وأزال عنهم العقاب ، وإلا ، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم ، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم ، أنزل بهم بأسه ، ولهذا قال : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أي : بظلمهم ، لا بظلم منا (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي : وقتا مقدرا ، لا يتقدمون عنه ، ولا يتأخرون.
[٦٠] يخبر تعالى ، عن نبيه ، موسى عليهالسلام ، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم ، أنه قال لفتاه ، أي :
خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره ، وهو «يوشع بن نون» الذي نبأه الله بعد ذلك : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي : لا أزال مسافرا وإن طالت عليّ الشقة ، ولحقتني المشقة ، حتى أصل إلى مجمع البحرين ، وهو : المكان الذي أوحى إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين ، عنده من العلم ، ما ليس عندك. (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي :