[٦٨ ـ ٦٩] ولهذا قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨) أي : كيف تصبر على أمر ، ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟ فقال موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وهذا عزم منه ، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به ، والعزم شيء ، ووجود الصبر شيء آخر ، فلذلك ما صبر موسى عليهالسلام حين وقع الأمر.
[٧٠] فحينئذ قال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي : لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار ، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله ، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به ، فنهاه عن سؤاله ، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.
[٧١] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي : اقتلع الخضر منها ، لوحا ، وكان له مقصود في ذلك ، سيبينه ، فلم يصبر موسى عليهالسلام ، لأن ظاهره أنه منكر ، لأنه عيب للسفينة ، وسبب لغرق أهلها ، ولهذا قال موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي : عظيما شنيعا ، وهذا من عدم صبره عليهالسلام.
[٧٢] فقال له الخضر : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي : فوقع كما أخبرتك ، وكان هذا من موسى ، نسيانا.
[٧٣] فقال : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي : لا تعسر علي الأمر ، واسمح لي ، فإن ذلك وقع على وجه النسيان ، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه ، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر ، الشدة على صاحبك ، فسمح عنه الخضر.
[٧٤ ـ ٧٥] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) أي : صغيرا (فَقَتَلَهُ) الخضر ، فاشتد بموسى الغضب ، وأخذته الحمية الدينية ، حين قتل غلاما صغيرا ، لم يذنب. (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً). وأي نكر مثل قتل الصغير ، الذي ليس عليه ذنب ، ولم يقتل أحدا؟ وكان الأول من موسى نسيانا ، وهذه غير نسيان ، ولكن عدم صبر ، فقال له الخضر ، معاتبا ومذكرا : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).
[٧٦] فقال له موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي : بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي : فأنت معذور بذلك ، وبترك صحبتي (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي : أعذرت مني ، ولم تقصر.
[٧٧] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي : استضافاهم (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي : عاب واستهدم (فَأَقامَهُ) الخضر أي : بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ، أي : أهل هذه القرية ، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم ، وأنت تبنيه من دون أجرة ، وأنت تقدر عليها؟
[٧٨] فحينئذ لم يف موسى عليهالسلام بما قال ، واستعذر الخضر منه ، فقال له : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) فإنك شرطت ذلك على نفسك ، فلم يبق الآن عذر ، ولا موضع للصحبة. (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي : سأخبرك بما أنكرت عليّ ، وأنبئك بأن لي في ذلك من المآرب ، وما يؤول إليه الأمر.