[١٠] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي : يطمئن بها قلبي ، وليس هذا شكا في خبر الله ، وإنما هو ، كما قال الخليل عليهالسلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فطلب زيادة العلم ، والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين ، فأجابه الله إلى طلبته ، رحمة به. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) وفي الآية الأخرى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، والمعنى واحد ، لأنه تارة يعبر بالليالي ، وتارة بالأيام ومؤداها واحد ، وهذا من الآيات العجيبة ، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام ، وعجزه عنه من غير خرس ولا آفة ، بل كان سويا ، لا نقص فيه ـ من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد ـ ومع هذا ، ممنوع من الكلام ، الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم ، وأما التسبيح ، والذكر ونحوه ، فغير ممنوع منه ، ولهذا قال في الآية الأخرى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ، فاطمأن قلبه ، واستبشر بهذه البشارة العظيمة ، وامتثل لأمر الله له ، بالشكر ، بعبادته وذكره ، فعكف في محرابه.
[١١] وخرج على قومه منه ، فأوحى إليهم ، أي : بالإشارة والرمز (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) لأن البشارة ب «يحيى» في حق الجميع ، مصلحة دينية.
[١٢] دل الكلام السابق ، على ولادة يحيى ، وشبابه ، وتربيته ، فلما وصل إلى حالة يفهم فيها الخطاب ، أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه ، وفهم معانيه ، والعمل بأوامره ونواهيه ، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة ، فامتثل أمر ربه ، وأقبل على الكتاب ، فحفظه وفهمه ، وجعل الله فيه من الذكاء والفطنة ، ما لا يوجد في غيره ولهذا قال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).
[١٣] (وَ) آتيناه أيضا (حَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي : رحمة ورأفة ، تيسرت بها أموره ، وصلحت بها أحواله ، واستقامت بها أفعاله. (وَزَكاةً) أي : طهارة من الآفات والذنوب ، فطهر قلبه ، وتزكى عقله ، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة ، والأخلاق الرديئة ، وزيادة الأخلاق الحسنة ، والأوصاف المحمودة ، ولهذا قال : (وَكانَ تَقِيًّا) أي : فاعلا للمأمور ، تاركا للمحظور ، ومن كان مؤمنا تقيا ، كان لله وليا ، وكان من أهل الجنة ، التي أعدت للمتقين ، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي ، ما رتبه الله على التقوى.
[١٤] (وَ) كان أيضا (بَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي : لم يكن عاقا ، ولا مسيئا إلى أبويه ، بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل. (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي : لم يكن متجبرا متكبرا عن عبادة الله ، ولا مترفعا على عباد الله ، ولا على والديه. فجمع بين القيام بحق الله ، وحق خلقه ، ولهذا حصلت له السلامة من الله ، في جميع أحواله ، مبادئها وعواقبها.
[١٥] فلذا قال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥) وذلك يقتضي سلامته من الشيطان ، والشر ، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها ، وأنه سالم من النار والأهوال ، ومن أهل دار السّلام ، فصلوات