مع الأسباب ، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها (وَرَحْمَةً مِنَّا) ولنجعله رحمة منا به ، وبوالدته ، وبالناس. أما رحمة الله به ، فلما خصه الله بوحيه ومنّ عليه بما منّ به على أولي العزم. وأما رحمته بوالدته ، فلما حصل لها من الفخر ، والثناء الحسن ، والمنافع العظيمة. وأما رحمته بالناس ، فإن أكبر نعمه عليهم ، أن بعث فيهم رسولا ، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فيؤمنون به ، ويطيعونه ، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة. (وَكانَ) أي : وجود عيسى عليهالسلام على هذه الحالة (أَمْراً مَقْضِيًّا) قضاء سابقا ، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء ، فنفخ جبريل عليهالسلام في جيبها.
[٢٢ ـ ٢٣] أي : لما حملت بعيسى عليهالسلام ، خافت من الفضيحة ، فتباعدت عن الناس (مَكاناً قَصِيًّا) ، فلما قرب ولادها ، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة ، فلما آلمها وجع الولادة ، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب ، ووجع قلبها من قالة الناس ، وخافت عدم صبرها ، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث ، وكانت نسيا منسيا ، فلا تذكر.
[٢٤] وهذا التمني بناء على ذلك المزعج ، وليس في هذه الأمنية خير لها ، ولا مصلحة ، وإنما الخير والمصلحة ، بتقدير ما حصل فحينئذ سكّن الملك روعها وثبّت جأشها وناداها من تحتها ، لعله من مكان أنزل من مكانها ، و
قال لها : لا تحزني ، أي : لا تجزعي ولا تهتمي ، ف (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي : نهرا تشربين منه.
[٢٥] (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥) أي : طريا لذيذا نافعا (فَكُلِي) من التمر ، (وَاشْرَبِي) من النهر (وَقَرِّي عَيْناً) بعيسى ، فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة ، وحصول المأكل والمشرب الهنيّ.
[٢٦] وأما من جهة قالة الناس ، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر ، أن تقول على وجه الإشارة : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : سكوتا (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي : لا تخاطبيهم بكلام ، لتستريحي من قولهم وكلامهم. وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة ، وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها ، ولا فيه فائدة ، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد ، أعظم شاهد على براءتها. فإن إتيان المرأة بولد ، من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد ، من أكبر الدعاوى ، التي لو أقيم عليها عدة من الشهود ، لم تصدق بذلك ، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة ، أمرا من جنسه ، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا.
[٢٧] ولهذا قال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ) إلى (أُبْعَثُ حَيًّا). أي : فلما تعلت مريم من نفاسها ، أتت بعيسى قومها تحمله ، وذلك ، لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها ، فأتت غير مبالية ولا مكترثة ، فقالوا : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي : عظيما وخيما وأرادوا بذلك : البغاء حاشاها من ذلك.
[٢٨] (يا أُخْتَ هارُونَ) الظاهر ، أنه أخ لها حقيقي ، فنسبوها إليه. (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي : لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر ، وخصوصا هذا الشر ، الذي يشيرون إليه ، وقصدهم : فكيف كنت