وحالت بينهم وبين الإيمان ، شهواتهم المنقضية الفانية ، فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها ، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن عمل خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنّ إلا نفسه.
[٤١] أجل الكتب وأفضلها وأعلاها ، هذا الكتاب المبين ، والذكر الحكيم ، فإن ذكر فيه الأخبار ، كانت أصدق الأخبار ، وأحقها ، وأنفعها ، وإن ذكر فيه الأمر والنهي ، كانت أجل الأوامر والنواهي ، وأعدلها وأقسطها ، وإن ذكر فيه الجزاء ، والوعد والوعيد ، كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة ، والعدل والفضل ، وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون ، كان المذكور فيه ، أكمل من غيره ، وأفضل ، ولهذا كثيرا ما يبدىء ويعيد في قصص الأنبياء ، الّذين فضلهم على غيرهم ، ورفع قدرهم ، وأعلى أمرهم ، بسبب ما قاموا به ، من عبادة الله ومحبته ، والإنابة إليه ، والقيام بحقوقه ، وحقوق العباد ، ودعوة الخلق إلى الله ، والصبر على ذلك ، والمقامات الفاخرة ، والمنازل العالية. فذكر الله في هذه السورة ، جملة من الأنبياء ، يأمر الله رسوله أن يذكرهم ، لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم ، وبيان فضله وإحسانه إليهم ، وفيه الحث على الإيمان بهم ، ومحبتهم ، والاقتداء بهم ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٤١) جمع الله له بين الصديقية والنبوة. فالصديق : كثير الصدق ، فهو الصادق في أقواله ، وأفعاله ، وأحواله المصدق بكل ما أمر بالتصديق به ، وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب ، المؤثر فيه ، الموجب لليقين ، والعمل الصالح الكامل ، وإبراهيم عليهالسلام ، هو أفضل الأنبياء كلهم ، بعد محمد صلىاللهعليهوسلم. وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة ، وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، وهو الذي دعا الخلق إلى الله ، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم ، فدعا القريب والبعيد.
[٤٢] واجتهد في دعوة أبيه ، مهما أمكنه. وذكر الله مراجعته إياه فقال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) مهجنا له عبادة الأوثان (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، أي : لم تعبد أصناما ، ناقصة في ذاتها ، وفي أفعالها ، فلا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تملك لعابدها ، نفعا ولا ضرا ، بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع ، ولا تقدر على شيء من الدفع ، فهذا برهان جليّ دال ، على أن عبادة الناقص ، في ذاته ، وأفعاله ، مستقبح ، عقلا وشرعا. ودل تنبيهه وإشارته ، أن الذي يجب ، ويحسن ، عبادة من له الكمال الذي ، لا ينال العباد نعمة إلا منه ، ولا يدفع عنهم نقمة ، إلا هو ، وهو الله تعالى.
[٤٣] (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) أي : يا أبت لا تحقرني وتقول : إني ابنك ، وإن عندك ما ليس عندي ، بل قد أعطاني الله من العلم ، ما لم يعطك ، والمقصود من هذا قوله : (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي : مستقيما معتدلا ، وهو : عبادة الله وحده لا شريك له ، وطاعته في جميع الأحوال ، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ، ما لا يخفى ، فإنه لم يقل «يا أبت أنا عالم ، وأنت جاهل» أو «ليس عندك من العلم شيء» ، وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علما ، وأن الذي وصل إليّ لم يصل إليك ، ولم يأتك ، فينبغي لك أن تتبع الحجة ، وتنقاد لها.
[٤٤] (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لأن من عبد غير الله ، فقد عبد الشيطان كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠). (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) فمن اتبع خطواته ، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان. وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن ، إشارة إلى أن المعاصي ، تمنع العبد من رحمة الله ، وتغلق عليه أبوابها ، كما أن الطاعة ، أكبر الأسباب لنيل رحمته.
[٤٥] ولهذا قال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي : بسبب إصرارك على الكفر ، وتماديك في الطغيان (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي : في الدنيا والآخرة ، فتنزل بمنازله الذميمة ، وترتع في مراتعه الوخيمة ، فتدرج الخليل عليهالسلام بدعوة أبيه ، بالأسهل فالأسهل ، فأخبره بعلمه ، وأن ذلك ، موجب لاتباعك إياي وأنك إن