أطعتني ، اهتديت إلى صراط مستقيم ، ثم نهاه عن عبادة الشيطان ، وأخبره بما فيها من المضار ، ثم حذره عقاب الله ونقمته ، إن أقام على حاله ، وأنه يكون وليا للشيطان.
[٤٦] فلم ينجع هذا الدعاء ، بذلك الشقيّ ، فأجاب بجواب جاهل و (قالَ : أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) فتبجح بآلهته ، التي هي من الحجر والأصنام ، ولام إبراهيم عن رغبته عنها ، وهذا من الجهل المفرط ، والكفر الوخيم ، يتمدح بعبادة الأوثان ، ويدعو إليها. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أي : عن شتم آلهتي ، ودعوتي إلى عبادة الله (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي : قتلا بالحجارة (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي : لا تكلمني زمانا طويلا. فأجابه الخليل ، جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين ، ولم يشتمه بل صبر ، ولم يقابل أباه بما يكره.
[٤٧] و (قالَ : سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب ، وبما تكره. (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي : لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة ، بأن يهديك للإسلام ، الذي به تحصل المغفرة. ف (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي : رحيما رؤوفا بحالي ، معتنيا بي ، فلم يزل يستغفر الله له ، رجاء أن يهديه الله ، فلما تبين له أنه عدو الله ، وأنه لا يفيد فيه شيئا ، ترك الاستغفار له ، وتبرأ منه. وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله ، بطريق العلم والحكمة ، واللين والسهولة ، والانتقال من رتبة إلى رتبة ، والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق ، بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك ، بالصفح ، والعفو ، بل بالإحسان القولي والفعلي.
[٤٨] فلما أيس من قومه وأبيه قال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أنتم وأصنامكم (وَأَدْعُوا رَبِّي) وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي : عسى الله أن يسعدني ، بإجابة دعائي ، وقبول أعمالي ، وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم ، فاتبعوا أهواءهم ، فلم تنجع فيهم المواعظ ، فأصروا في طغيانهم يعمهون. فمن وقع في هذه الحال فعليه أن يشتغل بإصلاح نفسه ، ويرجو القبول من ربه ، ويعتزل الشر وأهله.
[٤٩] ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ، من أشق شيء على النفس ، لأمور كثيرة معروفة ، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، واعتزل إبراهيم قومه ، قال الله في حقه : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا) من إسحق ويعقوب (جَعَلْنا نَبِيًّا) فحصل له ولهؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس ، الّذين خصهم الله بوحيه ، واختارهم لرسالته واصطفاهم من العالمين.
[٥٠] (وَوَهَبْنا لَهُمْ) أي : لإبراهيم وابنيه ، إسحق ويعقوب (مِنْ رَحْمَتِنا) وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة ، من العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والذرية الكثيرة المنتشرة ، الّذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم ، لأن الله وعد كل محسن ، أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه ، وهؤلاء من أئمة المحسنين ، فنشر الله الثناء الحسن الصادق ، غير الكاذب ، العالي غير الخفي