فذكرهم ملأ الخافقين ، والثناء عليهم ومحبتهم ، امتلأت بها القلوب ، وفاضت به الألسنة فصاروا قدوة للمقتدين ، وأئمة للمهتدين ، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور ، متجددة ، وذلك فضل الله ، يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.
[٥١] أي : واذكر في هذا القرآن العظيم ، موسى بن عمران ، على وجه التبجيل له والتعظيم ، والتعريف بمقامه الكريم ، وأخلاقه الكاملة. (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) وقرىء بفتح اللام ، على معنى أن الله تعالى اختاره واستخلصه ، واصطفاه على العالمين. وقرىء بكسرها ، على معنى أنه كان مخلصا لله تعالى ، في جميع أعماله ، وأقواله ، ونياته ، فوصفه بالإخلاص في جميع أحواله ، والمعنيان متلازمان ، فإن الله أخلصه ، لإخلاصه ، وإخلاصه ، موجب لاستخلاصه. وأجل حالة يوصف بها العبد ، الإخلاص منه ، والاستخلاص من ربه. (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أي : جمع الله له بين الرسالة والنبوة ، فالرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل ، وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع ، دقه وجله. والنبوة ، تقتضي إيحاء الله إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه. فالنبوة بينه وبين ربه ، والرسالة ، بينه وبين الخلق ، بل خصه الله من أنواع الوحي ، بأجل أنواعه وأفضلها ، وهو : تكليمه تعالى وتقريبه مناجيا لله تعالى ، وبهذا اختص من بين الأنبياء ، بأنه كليم الرحمن.
[٥٢] ولهذا قال : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي : الأيمن من موسى في وقت مسيره ، أو الأيمن أي : الأبرك من «اليمن» والبركة. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها). (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) والفرق بين النداء والنجاء ، أن النداء هو : الصوت الرفيع ، والنجاء ، ما دون ذلك. وفي هذا إثبات الكلام لله تعالى وأنواعه ، من النداء ، والنجاء ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، خلافا لمن أنكر ذلك ، من الجهمية ، والمعتزلة ، ومن نحا نحوهم.
[٥٣] وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) هذا من أكبر فضائل موسى وإحسانه ، ونصحه لأخيه هرون ، أنه سأل ربه أن يشركه في أمره ، وأن يجعله رسولا مثله ، فاستجاب الله له ذلك ، ووهب له من رحمته ، أخاه هرون نبيا. فنبوة هرون ، تابعة لنبوة موسى عليهماالسلام ، فساعده على أمره ، وأعانه عليه.
[٥٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥٤) أي : واذكر في القرآن الكريم ، هذا النبي العظيم ، الذي خرج منه الشعب العربي ، أفضل الشعوب وأجلها ، الّذين منهم سيد ولد آدم. (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) أي : لا يعد وعدا ، إلا وفى به ، وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع الله أو مع العباد. ولهذا لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وفّى بذلك ومكّن أباه من الذبح ، الذي هو أكبر مصيبة تصيب الإنسان ، ثم وصفه بالرسالة والنبوة ، التي هي أكبر منن الله على عبده ، وجعله من الطبقة العليا من الخلق.
[٥٥] (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي : كان مقيما لأمر الله على أهله فيأمرهم بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود ، وبالزكاة المتضمنة للإحسان إلى العبيد ، فكمل نفسه ، وكمل غيره وخصوصا أخص الناس عنده وهم أهله لأنهم أحق بدعوته من غيرهم. (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه ، ارتضاه الله وجعله من خواص عباده وأوليائه المقربين ، فرضي الله عنه ، ورضي هو عن ربه.
[٥٦] أي : اذكر في الكتاب على وجه التعظيم والإجلال ، والوصف بصفات الكمال. (إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الصديقية ، الجامعة للتصديق التام ، والعلم الكامل ، واليقين الثابت ، والعمل الصالح ، وبين اصطفائه لوحيه ، واختياره لرسالته.
[٥٧] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧) أي : رفع الله ذكره في العالمين ، ومنزلته بين المقربين ، فكان عالي الذكر ، عالي المنزلة.