عن الإساءة إلى الوالدين ، أو عدم الإحسان والإساءة ، لأن الواجب الإحسان ، والأمر بالشيء نهي عن ضده. وللإحسان ضدان : الإساءة ، وهي أعظم جرما ، وترك الإحسان بدون إساءة ، وهذا محرم ، لكن لا يجب أن يلحق بالأول ، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين. وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد ، بل تكون بالحد ، كما تقدم. ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما ، فقال : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ، ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليمهم العلم ، وبذل السلام ، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله ، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق ، وهو الإحسان بالقول ، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده ، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله ، غير فاحش ولا بذيء ، ولا شاتم ، ولا مخاصم ، بل يكون حسن الخلق ، واسع الحلم ، مجاملا لكل أحد ، صبورا على ما يناله من أذى الخلق ، امتثالا لأمر الله ، ورجاء لثوابه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود ، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. ثم بعد هذا الأمر لكم ، بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل ، عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها ، وتفضل بها عليهم ، وأخذ المواثيق عليهم (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) على وجه الإعراض ، لأن المتولي قد يتولى ، وله نية رجوع إلى ما تولى عنه ، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر ، فنعوذ بالله من الخذلان. وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) ، هذا استثناء ، لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم ، فأخبر أن قليلا منهم ، عصمهم الله وثبتهم.
ولهذا الفعل المذكور في هذه الآية ، فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة ، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم مشركين ، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية ، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود : بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قينقاع ، فكل فرقة منهم ، حالفت فرقة من أهل المدينة.
[٨٤ ـ ٨٥] فكانوا إذا اقتتلوا ، أعان اليهودي حليفه على مقاتليه ، الذين تعينهم الفرقة الأخرى من اليهود ، فيقتل اليهودي اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا. والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم ، ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ، وإذا وجدوا أسيرا منهم ، وجب عليهم فداؤه ، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين ، فأنكر الله عليهم ذلك ، فقال : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو فداء الأسير ، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو القتل والإخراج. وفيها دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر ، واجتناب النواهي ، وأن فعل المأمورات من الإيمان ، قال تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد وقع ذلك. فأخزاهم الله ، وسلّط رسوله عليهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى منهم ، وأجلى من أجلى. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) ، أي : أعظمه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
[٨٦] ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب ، والإيمان ببعضه ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار ، فاختاروا النار على العار ، فلهذا قال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) ، بل هو باق على شدته ، ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، أي : يدفع عنهم مكروه.
[٨٧] يمتن تعالى على بني إسرائيل ، أن أرسل لهم كليمه موسى ، وآتاه التوراة ، ثم تابع بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة ، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى عليهالسلام ، وآتاه من الآيات البينات ، ما يؤمن على مثله البشر ، (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، أي : قواه الله بروح القدس. قال أكثر المفسرين : إنه جبريل عليهالسلام ، وقيل : إنه