[٥٨] لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين ، وخواص المرسلين ، وذكر فضائلهم ومراتبهم فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ). أي : أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق ، ومنّة لا تسبق ، من النبوة والرسالة. وهم الّذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الّذين أنعم عليهم ، وأن من أطاع الله ، كان (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) الآية. وأن بعضهم (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي : من ذريته (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) ، فهذه خير بيوت العالم ، اصطفاهم الله ، واختارهم ، واجتباهم. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب ، والإخبار باليوم الآخر ، والوعد والوعيد. (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي : خضعوا لآيات الله ، وخشعوا لها ، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ، ما أوجب لهم بالبكاء والإنابة ، والسجود لربهم. ولم يكونوا من الّذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا. وفي إضافة الآيات إلى اسمه (الرَّحْمنِ) دلالة على أن آياته ، من رحمته بعباده ، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق ، وبصرهم من العمى ، وأنقذهم من الضلالة ، وعلمهم من الجهالة.
[٥٩] لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء وهم المخلصون المتبعون لمراضي ربهم ، المنيبون إليه ، ذكر من أتى بعدهم ، وبدّلوا ما أمروا به ، وأنه خلف من بعدهم خلف ، رجعوا إلى الخلف والوراء ، فأضاعوا الصلاة ، التي أمروا بالمحافظة عليها وإقامتها ، فتهاونوا بها وضيعوها ، وإذا ضيعوا الصلاة التي هي عماد الدين ، وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين ، التي هي آكد الأعمال ، وأفضل الخصال ، كانوا لما سواها من دينهم ، أضيع ، وله أرفض. والسبب الداعي لذلك ، أنهم اتبعوا شهوات أنفسهم وإرادتها فصارت هممهم منصرفة إليها ، مقدمة لها على حقوق الله. فنشأ من ذلك ، التضييع ، لحقوقه ، والإقبال على شهوات أنفسهم ، مهما لاحت لهم ، حصلوها ، وعلى أي وجه اتفقت ، تناولوها. (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي : عذابا مضاعفا شديدا.
[٦٠] ثم استثنى تعالى فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ) عن الشرك والبدع والمعاصي ، فأقلع عنها وندم عليها ، وعزم عزما جازما أن لا يعاودها. (وَآمَنَ) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. (وَعَمِلَ صالِحاً) وهو العمل الذي شرعه الله على ألسنة رسله ، إذا قصد به وجهه. (فَأُولئِكَ) الّذين جمعوا بين التوبة والإيمان ، والعمل الصالح. (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) المشتملة على النعيم المقيم ، والعيش السليم ، وجوار الرب الكريم. (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) من أعمالهم ، بل يجدونها كاملة موفرة أجورها ، مضاعفا عددها.
[٦١] ثم ذكر أن الجنة التي وعدهم بدخولها ، ليست كسائر الجنات ، وإنما هي (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : جنات إقامة ، لا ظعن فيها ، ولا حول ولا زوال ، وذلك لسعتها ، وكثرة ما فيها من الخيرات والسرور ، والبهجة والحبور.
(الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي : التي وعدها الرحمن ، أضافها إلى اسمه (الرَّحْمنُ) لأنها فيها من الرحمة. والإحسان ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وسماها تعالى رحمته فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ