ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧) وأيضا ففي إضافتها إلى رحمته ، ما يدل على استمرار سرورها ، وأنها باقية ، ببقاء رحمته التي هي أثرها وموجبها. و «العباد» في هذه الآية المراد ، عباد إلهيته ، الّذين عبدوه ، والتزموا شرائعه ، فصارت العبودية وصفا لهم كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) ونحوه ، بخلاف عباده المماليك فقط ، الّذين لم يعبدوه ، فهؤلاء وإن كانوا عبيدا لربوبيته ، لأنه خلقهم ورزقهم ، ودبرهم ، فليسوا داخلين في عبيد إلهيته ، العبودية الاختيارية ، التي يمدح صاحبها ، وإنما عبوديتهم ، عبودية اضطرار ، لا مدح لهم فيها. وقوله : (بِالْغَيْبِ) يحتمل أن تكون متعلقة ب (وَعَدَ الرَّحْمنُ) فيكون المعنى على هذا ، أن الله وعدهم إياها ، وعدا غائبا ، لم يشاهدوه ولم يروه ، فآمنوا بها ، وصدقوا غيبها وسعوا لها سعيها ، مع أنهم لم يروها ، فكيف لو رأوها ، لكانوا أشد لها طلبا ، وأعظم فيها رغبة ، وأكثر لها سعيا ، ويكون في هذا ، مدح لهم بإيمانهم بالغيب ، الذي هو الإيمان النافع. ويحتمل أن تكون متعلقة بعباده ، أي : الّذين عبدوه في حال غيبهم وعدم رؤيتهم إياه. فهذه عبادتهم ولم يروه ، فلو رأوه ، لكانوا أشد له عبادة ، وأعظم إنابة ، وأكثر حبا ، وأجل شوقا ، ويحتمل أيضا ، أن المعنى : هذه الجنات التي وعدها الرحمن عباده ، من الأمور التي لا تدركها الأوصاف ، ولا يعلمها أحد إلا الله ، ففيه من التشويق لها ، والوصف المجمل ، ما يهيج النفوس ، ويزعج الساكن إلى طلبها ، فيكون هذا مثل قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) والمعاني كلها صحيحة ثابتة ، ولكن الاحتمال الأول ، أولى بدليل قوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) لا بد من وقوعه ، فإنه لا يخلف الميعاد ، وهو أصدق القائلين.
[٦٢] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : كلاما لاغيا ، لا فائدة فيه ، ولا ما يؤثم. فلا يسمعون فيها شتما ، ولا عيبا ، ولا قولا فيه معصية لله ، أو قولا مكدرا. (إِلَّا سَلاماً) أي : الأقوال السالمة من كل عيب ، من ذكر الله ، وتحية ، وكلام سرور ، وبشارة ، ومطارحة الأحاديث الحسنة بين الإخوان وسماع خطاب الرحمن ، والأصوات الشجية ، من الحور ، والملائكة ، والولدان ، والنغمات المطربة ، والألفاظ الرخيمة ، لأن الدار ، دار السّلام ، فليس فيها إلا السّلام التام في جميع الوجوه. (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : أرزاقهم من المآكل والمشارب ، وأنواع اللذات ، مستمرة حيثما طلبوا ، وفي أي وقت رغبوا ، ومن تمامها ، ولذتها ، وحسنها ، أن تكون في أوقات معلومة. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليعظم وقعها ويتم نفعها.
[٦٣] ف (تِلْكَ الْجَنَّةُ) التي وصفناها بما ذكر (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي : نورثها المتقين ، ونجعلها منزلهم الدائم ، الذي لا يظعنون عنه ، ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣).
[٦٤] استبطأ النبي صلىاللهعليهوسلم جبريل عليهالسلام مرة في نزوله إليه فقال له : «لو تأتينا أكثر مما تأتينا» ، شوقا إليه ، وتوحشا لفراقه ، وليطمئن قلبه بنزوله. فأنزل الله تعالى على لسان جبريل (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أي : ليس لنا من الأمر شيء ، إن أمرنا ، ابتدرنا أمره ، ولم نعص له أمرا ، كما قال الله عنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فنحن عبيد مأمورون. (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي : له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة ، في الزمان ، والمكان ، فإذا تبين أن الأمر كله لله ، وأننا عبيد مدبرون ، فيبقى الأمر دائرا بين «هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره؟ ولهذا قال : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي : لم يكن لينساك ويهملك ، كما قال تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣). بل لم يزل معتنيا بأمورك ، مجربا لك على أحسن عوائده الجميلة ، وتدابيره الجليلة. أي : فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد ، فلا يحزنك ذلك ، ولا يهمك ، واعلم أن الله ، هو الذي أراد ذلك ، لما له من الحكمة فيه.
[٦٥] ثم علل إحاطة علمه ، وعدم نسيانه ، بأنه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فربوبيته للسموات والأرض ، وكونهما