أمكنه ، وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم. فجاؤوا إليه ، ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة ، وهم حرصوا غاية الحرص ، وكادوا أشد الكيد ، على غلبتهم لموسى ، وكان منهم ما كان ، فهل يمكن ، أن يتصور مع هذا ، أن يكونوا دبروا ، هم وموسى ، واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال. ثمّ توعد فرعون السحرة فقال : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد ، يقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي : لأجل أن تشهروا وتختزوا. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) يعني بزعمه هو وأمته ، وأنه أشد عذابا من الله ، وأبقى قلبا للحقائق ، وترهيبا لمن لا عقل له.
[٧٢] ولهذا لما عرف السحرة الحق ، ورزقهم الله من العقل ، ما يدركون به الحقائق ، أجابوا بقولهم : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده ، المعظم المبجل وحده ، وأن ما سواه باطل ، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا. هذا لا يكون (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) مما أوعدتنا به ، من القطع ، والصلب ، والعذاب. (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : إنّما توعدنا به ، غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ، ينقضى ويزول ولا يضرنا ، بخلاف عذاب الله ، لمن استمر على كفره ، فإنه دائم عظيم. وهذا كأنه جواب منهم لقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ، وفي هذا الكلام ، من السحرة ، دليل على أنه ينبغي للعاقل ، أن يوازن بين لذات الدنيا ، ولذات الآخرة ، وبين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة.
[٧٣] (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي : كفرنا ومعاصينا ، فإن الإيمان مكفر للسيئات ، والتوبة تجبّ ما قبلها. وقولهم : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) الذي عارضنا به الحق ، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم ، وإنّما أكرههم فرعون إكراها. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أثّر معهم ، ووقع منهم موقعا كبيرا ، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة ، ثمّ إن فرعون ألزمهم ذلك ، وأكرههم على المكر الذي أجروه ، ولهذا تكلموا بكلامه السابق ، قبل إتيانهم ، حيث قالوا : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) فجروا على ما سنّه لهم ، وأكرههم عليه. ولعل هذه النكتة ، التي قامت بقلوبهم ، من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ، ما فعلوا على وجه الإغماض ، هي التي أثرت معهم ، ورحمهمالله بسببها ، ووفقهم للإيمان والتوبة ، والله خير مما أوعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه ، وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) يريد أنه أشد عذابا وأبقى وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون ، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة ، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب ، ولم يذكر أنه فعل ذلك ، ولم يأت في ذلك حديث صحيح ، والجزم بوقوعه ، أو عدمه ، يتوقف على الدليل ، والله أعلم بذلك وغيره.
[٧٤ ـ ٧٦] يخبر تعالى أن من أتاه وقدم عليه مجرما ـ أي : وصفه الجرم من كل وجه ، وذلك يستلزم الكفر ـ واستمر على ذلك حتّى مات ، فإن له نار جهنم ، الشديد نكالها ، العظيمة أغلالها ، البعيد قعرها ، الأليم حرها وقرها ، التي فيها من العقاب ، ما يذيب الأكباد والقلوب ، ومن شدة ذلك ، أن المعذب فيها ، لا يموت ولا يحيا ، لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة يتلذذ بها ، وإنّما حياته ، محشوة بعذاب القلب ، والروح ، والبدن ، الذي لا يقدر قدره ، ولا يفتر عنه ساعة ، يستغيث فلا يغاث ، ويدعو فلا يستجاب له. نعم إذا استغاث ، أغيث بماء كالمهل ، يشوي الوجوه ، وإذا دعا ، أجيب ب (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ). ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله ، متبعا لكتبه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) الواجبة والمستحبة ، (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي : المنازل العاليات ، في الغرف المزخرفات ، واللذات المتواصلات ، والأنهار السارحات ، والخلود الدائم ، والسرور العظيم ، فيما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. (وَذلِكَ) الثواب ، (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي : تطهر من الشرك ، والكفر ، والفسوق ، والعصيان ، إما أن لا يفعلها بالكلية ، أو يتوب مما فعله منها ، وزكى أيضا نفسه ، ونماها بالإيمان والعمل الصالح ، فإن للتزكية