الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧). فاستجاب الله له ، فأغرقهم ، ولم يبق منهم أحدا ، ونجّى الله نوحا وأهله ، ومن معه من المؤمنين ، في الفلك المشحون ، وجعل ذريته هم الباقين ، ونصرهم الله على قومه المستهزئين.
[٧٨] أي : واذكر هذين النبيين الكريمين «سليمان» و «داود» مثنيا مبجلا ، إذ آتاهما الله العلم الواسع ، والحكم بين العباد ، بدليل قوله : (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي : إذ تحاكم إليهما صاحب حرث ، نفشت فيه غنم القوم الأخرى ، أي : رعت ليلا ، فأكلت ما في أشجاره ، ورعت زرعه ، فقضى فيه داود عليهالسلام ، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ، نظرا إلى تفريط أصحابها ، فعاقبهم بهذه العقوبة. وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب ، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث ، حتى يعود إلى حاله الأولى ، فإذا عاد إلى حاله ، ترادا ، ورجع كل منهما بماله ، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليهالسلام.
[٧٩] ولهذا قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي : فهمناه هذه القضية ، ولا يدل ذلك ، أن داود لم يفهمه الله في غيرها ، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله : (وَكُلًّا) من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحقّ والصواب وقد يخطىء ذلك ، وليس بملوم إذا أخطأ ، مع بذل اجتهاده. ثمّ ذكر ما خص به كلا منهما فقال : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ، وذكر أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا ، وتمجيدا ، وكان قد أعطاه الله ، من حسن الصوت ورقته ورخامته ، ما لم يؤته أحدا من الخلق ، فكان إذا سبح وأثنى على الله ، جاوبته الصم والطيور البهم ، وهذا فضل الله عليه وإحسانه ولهذا قال : (وَكُنَّا فاعِلِينَ).
[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي : علم الله داود عليهالسلام ، صنعة الدروع ، فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده ، فألان الله له الحديد ، وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة. (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي : هي وقاية لكم ، وحفظ عند الحرب ، واشتداد البأس. (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) نعمة الله عليكم ، حيث أجراها على يد عبده داود كما قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع ، وإلانتها أمر خارق للعادة ، وأن يكون ـ كما قاله المفسرون ـ : إن الله ألان له الحديد ، حتى كان يعمله كالعجين والطين ، من دون إذابة له على النار. ويحتمل أن تعليم الله له ، على جاري العادة ، وأن إلانة الحديد له ، بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن ، لإذابتها ، وهذا هو الظاهر ، لأن الله امتنّ على العباد وأمرهم بشكرها ، ولو لا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد ، لم يمتن عليهم بذلك ، ويذكر فائدتها ، لأن الدروع التي صنع داود عليهالسلام ، متعذر أن يكون المراد أعينها ، وإنّما المنّة بالجنس ، والاحتمال الذي ذكره المفسرون ، لا دليل عليه إلا قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ، وليس فيه أن الإلانة من دون سبب ، والله أعلم بذلك.
[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي : سخرناها (عاصِفَةً) أي : سريعة في مرورها. (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حيث أديرت امتثلت أمره ، غدوها شهر ورواحها شهر (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي أرض الشام ، حيث كان مقره. فيذهب على الريح شرقا وغربا ، ويكون مأواها ورجوعها ، إلى الأرض المباركة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) قد أحاط علمنا بجميع الأشياء ، وعلمنا داود وسليمان ، ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا.
[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) هذا أيضا من خصائص سليمان عليهالسلام ، أن الله سخر له الشياطين والعفاريت ، وسلطه على تسخيرهم في الأعمال ، التي لا يقدر على كثير منها غيرهم ، فكان منهم ، من يغوص له في البحر ، ويستخرج الدر ، واللؤلؤ ، وغير ذلك. ومنهم من يعمل له