والحصر. (مَثَلُ نُورِهِ) الذي يهدي إليه ، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين. (كَمِشْكاةٍ) أي : كوة (فِيها مِصْباحٌ) لأن الكوة ، تجمع نور المصباح حيث لا يتفرق. ذلك (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ) من صفائها وبهائها (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي : مضيء إضاءة الدر. (يُوقَدُ) ذلك المصباح ، الذي في تلك الزجاجة الدرية (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره ، من أنور ما يكون. (لا شَرْقِيَّةٍ) فقط ، فلا تصيبها الشمس ، آخر النهار. (وَلا غَرْبِيَّةٍ) فقط ، فلا تصيبها الشمس ، أو النهار. وإذا انتفى عنها الأمران ، كانت متوسطة من الأرض. كزيتون الشام ، تصيبه الشمس أول النهار وآخره ، فيحسن ويطيب ، ويكون أصفى لزيتها ، ولهذا قال : (يَكادُ زَيْتُها) من صفائه (يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) فإذا مسته النار ، أضاء إضاءة بليغة (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي : نور النار ، ونور الزيت. ووجه هذا المثل ، الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي. ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع ، فإذا وصل إليه العلم والإيمان ، اشتعل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة إشعال النار ، فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب ، من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله. إذا وصل إليه الإيمان ، أضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات. وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له ، نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نوره. ولما كان هذا من نور الله تعالى ، وليس كلّ أحد يصلح له ذلك قال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) ممن يعلم زكاءه وطهارته ، وأنه يزكى معه ، وينمو. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ليعقلوا عنه ، ويفهموا ، لطفا منه بهم ، وإحسانا إليهم وليتضح الحق من الباطل ، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة ، فيعلمها العباد علما واضحا. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فعلمه محيط بجميع الأشياء. فلتعلموا أن ضربه الأمثال ، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها وأنها مصلحة للعباد. فليكن اشتغالكم بتدبّرها وتعقّلها ، لا بالاعتراض عليها ، ولا بمعارضتها ، فإنه يعلم ، وأنتم لا تعلمون.
[٣٦ ـ ٣٧] ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ، ذكرها منوها بها فقال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ) إلى (بِغَيْرِ حِسابٍ). أي : يتعبد لله (فِي بُيُوتٍ) عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي : المساجد. (أَذِنَ اللهُ) أي : أمر ووصى (أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) هذان مجموع أحكام المساجد. فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها وتنظيفها من النجاسات والأذى وصونها من المجانين والصبيان ، الّذين لا يتحرزون عن النجاسات ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله. (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يدخل في ذلك ، الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلّم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات ، التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها وهذا أشرف القسمين. ولهذا شرعت الصلوات الخمس ، والجمعة ، في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، واستحبابا عند آخرين. ثم مدح تعالى ، عمّارها بالعبادة فقال : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) إخلاصا (بِالْغُدُوِّ) أول النهار (وَالْآصالِ) آخره (رِجالٌ). خص هذين الوقتين ، لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله ، وسهولته. ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء ، وأورادهما عند الصباح والمساء. أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه. (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) وهذا يشمل كلّ تكسّب يقصد به العوض ، فيكون قوله : (وَلا بَيْعٌ) من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على (ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) بل جعلوا طاعة الله وعبادته ، غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها ، رفضوه. ولما كان ترك الدنيا ، شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع