فقال : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) وهي : النجوم ، عمومها أو منازل الشمس والقمر التي تنزل منزلة منزلة ، وهي بمنزلة البروج ، والقلاع للمدن في حفظها. كذلك النجوم بمنزلة البروج المجعولة للحراسة فإنها رجوم للشياطين. (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) فيه النور والحرارة ، وهي : الشمس. (وَقَمَراً مُنِيراً) فيه النور ، لا الحرارة ، وهذا من أدلة عظمته ، وكثرة إحسانه ، فإن ما فيها من الخلق الباهر ، والتدبير المنتظم ، والجمال العظيم ، دال على عظمة خالقها في أوصافه كلها ، وما فيها من المصالح للخلق ، والمنافع ، دليل على كثرة خيراته.
[٦٢] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي : يذهب أحدهما ، فيخلفه الآخر ، وهكذا أبدا ، لا يجتمعان ، ولا يرتفعان. (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي : لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ، ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية ، ويشكر الله على ذلك ، ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره ، ورد من الليل أو النهار ، فمن فاته ورده من أحدهما ، أدركه في الآخر ، وأيضا فإن القلوب تتقلب وتنتقل ، في ساعات الليل والنهار ، فيحدث لها النشاط والكسل ، والذكر والغفلة ، والقبض والبسط ، والإقبال والإعراض ، فجعل الله الليل والنهار ، يتوالى كل منهما على العباد ، ويتكرران ، ليحدث لهم الذكر والنشاط ، والشكر لله في وقت آخر ، ولأن أوقات العبادات ، تتكرر بتكرر الليل والنهار ، فكلما تكررت الأوقات ، أحدث للعبد همة غير همته ، التي كسلت عنه ، في الوقت المتقدم ، فزاد في تذكرها وشكرها ، فوظائف الطاعات ، بمنزلة سقي الإيمان ، الذي يمده ، فلولا ذلك ، لذوى غرس الإيمان ويبس. فلله أتم حمد ، وأجمله على ذلك.
[٦٣ ـ ٦٤] ثمّ ذكر من جملة كثرة خيره ، منته على عباده الصالحين ، وتوفيقهم للأعمال الصالحات ، التي أكسبتهم المنازل العاليات ، في غرف الجنات فقال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) إلى (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً). العبودية لله نوعان : عبودية لربوبيته ، فهذه يشترك فيها سائر الخلق ، مسلمهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣) وعبودية لألوهيته ، وعبادته ، ورحمته ، وهي : عبودية أنبيائه ، وأوليائه ، وهي المراد هنا ، ولهذا أضافها إلى اسمه «الرحمن» إشارة إلى أنهم إنّما وصلوا إلى هذه الحال ، بسبب رحمته ، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ، ونعوتهم أفضل النعوت ، فوصفهم بأنهم (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي : ساكنين متواضعين لله ، وللخلق ، فهذا وصف لهم ، بالوقار ، والسكينة ، والتواضع لله ، ولعباده. (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) أي : خطاب جهل ، بدليل إضافة الفعل ، وإسناده لهذا الوصف ، (قالُوا سَلاماً) أي : خاطبوهم خطابا يسلمون فيه ، من الإثم ، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم ، بالحلم الكثير ، ومقابلة المسيء بالإحسان ، والعفو عن الجاهل ، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤) أي : يكثرون من صلاة الليل ، مخلصين فيها لربهم ، متذللين له ، كما قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧).
[٦٥] (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي : ادفعه عنا ، بالعصمة من أسبابه ، ومغفرة ما وقع منا ، مما هو مقتض للعذاب. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي : ملازما لأهلها ، بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه.
[٦٦] (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦) وهذا منهم ، على وجه التضرع لربهم ، وبيان شدة حاجتهم إليه ، وأنهم ليس في طاقتهم احتمال هذا العذاب ، وليتذكروا منّة الله عليهم ، فإن صرف الشدة ، بحسب شدتها وفظاعتها ، يعظم وقعها ويشتد الفرح بصرفها.
[٦٧] (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) النفقات الواجبة والمستحبة (لَمْ يُسْرِفُوا) بأن يزيدوا على الحد ، فيدخلوا في قسم التبذير ، وإهمال الحقوق الواجبة ، (وَلَمْ يَقْتُرُوا) فيدخلوا في باب البخل والشح (وَكانَ) إنفاقهم (بَيْنَ ذلِكَ) بين الإسراف والتقتير (قَواماً) يبذلون في الواجبات من الزكوات ، والكفارات ، والنفقات الواجبة ، وفيما ينبغي ،