وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب. فمن حزمها وعقلها ، أن جمعت كبار دولتها ، ورجال مملكتها وقالت :
[٣٢] (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي : أخبروني ، ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته ، وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي : ما كنت مستبدة بأمر ، دون رأيكم ومشورتكم.
[٣٣] (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي : إن رددت عليه قوله ، ولم تدخلي في طاعته ، فإنا أقوياء على القتال. فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي ، الذي لو تم ، لكان فيه دمارهم. ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه ، بل قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي : الرأي ما رأيت ، لعلمهم بعقلها ، وحزمها ، ونصحها لهم (فَانْظُرِي) نظر فكر وتدبر (ما ذا تَأْمُرِينَ). فقالت لهم ـ مقنعة لهم بالعدول عن رأيهم ، ومبينة سوء مغبة القتال ـ (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) قتلا ، وأسرا ، ونهبا لأموالها ، وتخريبا لديارها. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : جعل الرؤساء السادة ، أشراف الناس من الأرذلين ، أي : فهذا رأي غير سديد. وأيضا فلست بمطيعة له ، قبل الاحتيال ، وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها. وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا. فقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) منه. هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية ، وتتبدل فكرته ، وكيف أحواله وجنوده؟
[٣٦] فأرسلت إليه بهدية ، مع رسل من عقلاء قومها ، وذوي الرأي منهم. (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي : جاءه الرسل بالهدية (قالَ) منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) فليست تقع عندي موقعا ، ولا أفرح بها ، قد أغناني الله عنها ، وأكثر عليّ النعم. (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لحبكم للدنيا ، وقلة ما بأيديكم ، بالنسبة لما أعطاني الله.
[٣٧] ثم أوصى الرسول من غير كتاب ، لما رأى من عقله ، وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي : بهديتك (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ) أي : لا طاقة لهم (بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ، فرجع إليهم ، وأبلغهم ما قال سليمان ، وتجهزوا للمسير إلى سليمان.
[٣٨] وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه ، فقال لمن حضره من الجن والإنس : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : لأجل أن نتصرف فيه ، قبل أن يسلموا ، فتكون أموالهم محترمة.
[٣٩] (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) والعفريت هو : القوي النشيط جدا : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) ، والظاهر أن سليمان إذ ذاك ، في الشام ، فيكون بينه وبين سبأ ، نحو مسيرة أربعة أشهر ، شهران ذهابا ، وشهران إيابا ، ومع ذلك ، يقول هذا العفريت هو : أنا ألتزم بالمجيء به ، على كبره وثقله وبعده ، قبل أن تقوم من مجلسك ، الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة ، أن تكون معظم الضحى ، نحو ثلث يوم ، هذا نهاية المعتاد ، وقد يكون دون ذلك ، أو أكثر. وهذا الملك العظيم ، الذي عند آحاد رعيته ، هذه القوة ، والقدرة.
[٤٠] وأبلغ من ذلك أن (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) قال المفسرون : هو رجل عالم ، صالح ، عند سليمان