اللهُ) فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم ، وشكروا وأقرّوا له بالإحسان حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم ، الذي فضله على سائر بقاع الأرض ، وجعل قصده ركنا من أركان الإسلام ، وهادما للذنوب والآثام ، فلهذا خف عليهم ذلك ، وشق على من سواهم. ثم قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هو من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ومستحيل أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن منّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان : حفظ عن الضياع والبطلان بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيد له ، ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادّة ، وحفظ بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره وثوابه ، وحفظه من كل مكدر. بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين وتظهر صدقهم. وكأنّ في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) ، قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) بتقديره لهذه المحنة أو غيرها. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح. وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، أي : شديد الرحمة بهم عظيمها ، فمن رأفته ورحمته بهم أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها ، وأن ميّز عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه ، وأن امتحنهم امتحانا ، زاد به إيمانهم ، وارتفعت به درجتهم ، وأن وجّههم إلى أشرف البيوت ، وأجلّها.
[١٤٤] يقول الله لنبيه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ، أي : كثرة تردده في جميع جهاته ، شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال السماء ، وقال : (وَجْهِكَ) ، ولم يقل : «بصرك» لزيادة اهتمامه ، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر. (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) ، أي : نوجهك لولايتنا إياك ، (قِبْلَةً تَرْضاها) ، أي : تحبها وهي الكعبة ، وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلىاللهعليهوسلم ، حيث إن الله تعالى يسارع في رضاه ، ثم صرح له باستقبالها فقال : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، والوجه : ما أقبل من بدن الإنسان ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) ، أي : من بر وبحر ، وشرق وغرب ، جنوب وشمال ، (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، أي : جهته. ففيها اشتراط استقبال الكعبة ، للصلوات كلها ، فرضها ونفلها ، وأنه إن أمكن استقبال عينها ، وإلا فيكفي شطرها وجهتها ، وأن الالتفات بالبدن مبطل للصلاة ، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ولما ذكر تعالى فيما تقدم المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم ، وذكر جوابهم ، ذكر هنا أن أهل الكتاب والعلماء منهم يعلمون أنك في ذلك على حق واضح ، لما يجدونه في كتبهم ، فيعترضون عنادا وبغيا ، فإذا كانوا يغمون بخطاهم فلا تبالوا بذلك ، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه ، إذا كان الأمر مشتبها ، وكان ممكنا أن يكون معه صواب. فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه ، وأن المعترض معاند ، عارف ببطلان قوله ، فإنه لا محل للمبالاة ، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلهذا قال تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ، بل يحفظ عليهم أعمالهم ، ويجازيهم عليها ، وفيها وعيد للمعترضين ، وتسلية للمؤمنين.
كان النبي صلىاللهعليهوسلم ـ من كمال حرصه على هداية الخلق ـ يبذل غاية ما يقدر عليه من النصيحة ، ويتلطف بهدايتهم ، ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله ، فكان من الكفار من تمرد عن أمر الله ، واستكبر على رسل الله ، وترك الهدى ، عمدا وعدوانا ، فمنهم ، اليهود والنصارى ، أهل الكتاب الأول ، الذين كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم عن يقين ، لا عن جهل.
[١٤٥] فلهذا أخبر الله تعالى أنك : (لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) ، أي : بكل برهان ودليل ، يوضح قولك ، ويبين ما تدعو إليه ، (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) ، أي : ما تبعوك ، لأن اتباع القبلة دليل على اتباعه ، ولأن السبب هو