وتعقلها ، ومدح لمن يعقلها. وأنه عنوان على أنه من أهل العلم ، فعلم أن من لم يعقلها ، ليس من العالمين. والسبب في ذلك ، أن الأمثال الّتي يضربها الله في القرآن ، إنّما هي للأمور الكبار ، والمطالب العالية ، والمسائل الجليلة. فأهل العلم ، يعرفون أنها أهم من غيرها ، لاعتناء الله بها ، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها. فيبذلون جهدهم في معرفتها. وأما من لم يعقلها ، مع أهميتها ، فإن ذلك دليل على أنه ليس من أهل العلم ، لأنه إذا لم يعرف المسائل المهمة ، فعدم معرفته غيرها ، من باب أولى وأحرى. ولهذا ، أكثر ما يضرب الله الأمثال في أصول الدين ، ونحوها.
[٤٤] أي : هو تعالى ، المنفرد بخلق السموات ، على علوها وارتفاعها وسعتها وحسنها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب والملائكة. والأرض وما فيها من الجبال والبحار والبراري والقفار ، والأشجار ونحوها. وكلّ ذلك خلقه بالحق ، أي لم يخلقها عبثا ، ولا سدى ، ولا لغير فائدة. وإنّما خلقها ، ليقوم أمره وشرعه ، ولتتم نعمته على عباده ، وليروا من حكمته ، وقهره وتدبيره ، ما يدلهم على أنه وحده ، معبودهم ، ومحبوبهم ، وإلههم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) على كثير من المطالب الإيمانية ، إذا تدبرها المؤمن رأى ذلك فيها عيانا.
[٤٥] يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله ، وهو : هذا الكتاب العظيم. ومعنى تلاوته ، اتباعه ، بامتثال ما يأمر به ، واجتناب ما ينهى عنه ، والاهتداء بهداه ، وتصديق أخباره ، وتدبر معانيه ، وتلاوة ألفاظه ، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه. وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب ، علم أن إقامة الدين كلها ، داخلة في تلاوة الكتاب. فيكون قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) من باب عطف الخاص على العام ، لفضل الصلاة وشرفها ، وآثارها الجميلة ، وهي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). فالفحشاء ، كل ما استعظم ، واستفحش من المعاصي ، الّتي تشتهيها النفوس. والمنكر : كل معصية تنكرها العقول والفطر. ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أن العبد المقيم لها ، المتمم لأركانها وشروطها ، وخشوعها ، يستنير قلبه ، ويتطهر فؤاده ، ويزداد إيمانه ، وتقوى رغبته في الخير ، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر. فبالضرورة ، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه ، تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها. وثمّ في الصلاة ، مقصود أعظم من هذا وأكبر ، وهو : ما اشتملت عليه من ذكر الله ، بالقلب ، واللسان ، والبدن. فإن الله تعالى ، إنّما خلق العباد لعبادته ، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة. وفيها من عبوديات الجوارح كلها ، ما ليس في غيرها ، ولهذا قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومدحها ، أخبر أن ذكره تعالى ، خارج الصلاة ، أكبر من الصلاة كما هو قول جمهور المفسرين. لكن الأول ، أولى ، لأن الصلاة ، أفضل من الذكر خارجها ، ولأنها ـ كما تقدم ـ بنفسها من أكبر الذكر. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم على ذلك ، أكمل الجزاء ، وأوفاه.
[٤٦] ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت عن غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا ، إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحقّ وتحسينه ، ورد الباطل وتهجينه ،