شأن القبلة. وإنما كان الأمر كذلك ، لأنهم معاندون ، عرفوا الحق وتركوه ، فالآيات إنما ينتفع بها من يتطلب الحق ، وهو مشتبه عليه ، فتوضح له الآيات البينات ، وأما من جزم بعدم اتباع الحق ، فلا حيلة فيه. وأيضا فإن اختلافهم فيما بينهم حاصل ، وبعضهم غير تابع قبلة بعض ، فليس بغريب منهم ـ مع ذلك ـ أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد ، وهم الأعداء الحسدة حقيقة ، وقوله : (ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، أبلغ من قوله : (وَلا تَتَّبِعْ) ؛ لأن ذلك يتضمن أنه صلىاللهعليهوسلم اتصف بمخالفتهم ، فلا يمكن وقوع ذلك منه ، ولم يقل : «ولو أتوا بكل آية» لأنهم لا دليل لهم على قولهم. وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية ، لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه ، لأنها لا حدّ لها ، ولأنه يعلم بطلانها ، للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح فهو باطل ، فيكون حل الشبه من باب التبرع. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ، إنما قال : «أهواءهم» ولم يقل «دينهم» لأن ما هم عليه مجرد أهواء نفس ، حتى هم ـ في قلوبهم ـ يعلمون أنه ليس بدين ، ومن ترك الدين اتبع الهوى لا محالة ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأنك على الحق ، وهم على الباطل ، (إِنَّكَ إِذاً) ، أي : إن اتبعتهم ، فهذا احتراز ، لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها ، ولو في الأفهام ، (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ، أي : داخل فيهم ، ومندرج في جملتهم ، وأي ظلم أعظم من ظلم من علم الحق والباطل ، فآثر الباطل على الحق ، وهذا ، وإن كان الخطاب له صلىاللهعليهوسلم ، فإن أمته داخلة في ذلك. وأيضا ، فإذا كان هو صلىاللهعليهوسلم لو فعل ذلك ـ وحاشاه ـ صار ظالما مع علو مرتبته ، وكثرة إحسانه ، فغيره من باب أولى وأحرى.
[١٤٦ ـ ١٤٧] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧). يخبر تعالى أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم ، وعرفوا أن محمدا رسول الله ، وأن ما جاء به حق وصدق ، وتيقنوا ذلك ، كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون بغيره ، فمعرفتهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون. ولكن فريقا منهم ـ وهم أكثرهم ـ الذين كفروا به ، كتموا هذه الشهادة مع تيقنها ، وهم يعلمون (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ، وفي ضمن ذلك ، تسلية للرسول والمؤمنين ، وتحذير له من شرهم وشبههم ، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر به ، جهلا. فالعالم ، عليه إظهار الحق ، وتبيينه وتزيينه ، بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال ، وغير ذلك ، وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق ، وتشيينه ، وتقبيحه للنفوس ، بكل طريق مؤد لذلك ، فهؤلاء الكاتمون عكسوا الأمر ، فانعكست أحوالهم.
[١٤٧] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، أي : هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء لما اشتمل عليه من المطالب العالية والأوامر الحسنة ، وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ، ودفع مفاسدها ، لصدوره من ربك ، الذي من جملة تربيته لك ، أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس ، وجميع المصالح. (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، أي : فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه ، بل تفكّر فيه ، وتأمّل ، حتى تصل بذلك إلى اليقين ، لأن التفكر فيه لا محالة دافع للشك ، موصل لليقين.
[١٤٨] (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، أي : كل أهل دين وملة ، له وجهة يتوجه إليها في عبادته ، وليس الشأن في استقبال القبلة ، فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال ، ويدخلها النسخ والنقل من جهة إلى جهة ، ولكن الشأن كل الشأن ، في امتثال طاعة الله ، والتقرب إليه ، وطلب الزلفى عنده ، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية ، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس ، حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة ، كما أنها إذا اتصفت به ، فهي الرابحة على الحقيقة ، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع ، وهو الذي خلق الله له الخلق ، وأمرهم به. والأمر بالاستباق إلى الخيرات ، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات ، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها ، وإيقاعها على أكمل الأحوال ، والمبادرة إليها ، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات ، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات ، فالسابقون أعلى