وعقلاؤهم ، وأولو الألباب منهم ، والكمل منهم. فإن كان آيات بيّنات ، في صدور أمثال هؤلاء ، كانوا حجة على غيرهم. وإنكار غيرهم ، لا يضر ، ولا يكون ذلك إلا ظلما ، ولهذا قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) لأنه لا يجحدها إلا جاهل ، تكلم بغير علم ، ولم يقتد بأهل العلم ، ومن هو متمكن من معرفته على حقيقته ، أو متجاهل ، عرف أنه حق فعائده ، وعرف صدقه ، فخالفه.
[٥٠] أي : واعترض هؤلاء الظالمون المكذبون للرسول ، ولما جاء به ، واقترحوا عليه ، نزول آيات ، عينوها كما قال الله عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٩٠) الآيات. فتعيين الآيات ، ليس عندهم ، ولا عند الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإن في ذلك تدابير ، مع الله ، وأنه لو كان كذا ، وينبغي أن يكون كذا ، وليس لأحد من الأمر شيء. ولهذا قال : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) إن شاء أنزلها ، أو منعها (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وليس لي مرتبة ، فوق هذه المرتبة. وإذا كان القصد بيان الحقّ من الباطل ، فإذا حصل المقصود ـ بأي طريق ـ كان اقتراح الآيات المعينات على ذلك ، ظلما وجورا ، وتكبرا على الله ، وعلى الحقّ. بل لو قدر أن تنزل تلك الآيات ، ويكون في قلوبهم أنهم لا يؤمنون بالحق إلا بها ، كان ذلك ليس بإيمان ، وإنّما ذلك ، شيء وافق أهواءهم ، فآمنوا ، لا لأنه حق ، بل لتلك الآيات. فأي فائدة حصلت ، في إنزالها على التقدير الفرضي؟
[٥١] ولما كان المقصود بيان الحقّ ، ذكر تعالى طريقه فقال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) في علمهم بصدقك ، وصدق ما جئت به (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ). وهذا كلام مختصر جامع ، فيه من الآيات البينات ، والدلالات الباهرات ، شيء كثير ، فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده ، وهو أمي ، من أكبر الآيات على صدقه. ثمّ عجزهم عن معارضته ، وتحديهم إياه ، آية أخرى. ثمّ ظهوره ، وبروزه جهرا علانية ، يتلى عليهم ، ويقال : هو من عند الله ، قد أظهره الرسول ، وهو في وقت قلّ فيه أنصاره ، وكثر مخالفوه وأعداؤه ، فلم يخفه ، ولم يثن ذلك عزمه. بل خرج به على رؤوس الأشهاد ، ونادى به بين الحاضر والباد ، بأن هذا كلام ربي. فهل أحد يقدر على معارضته ، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟ ثمّ هيمنته على الكتب المتقدمة ، وتصحيحه للصحيح ، ونفي ما أدخل فيها من التحريف ، والتبديل. ثمّ هدايته لسواء السبيل ، في أمره ونهيه. فما أمر بشيء فقال العقل «ليته لم يأمر به» ، ولا نهى عن شيء قال العقل : «ليته لم ينه عنه». بل هو مطابق للعدل والميزان ، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول. ثمّ مسايرة إرشاداته ، وهدايته ، وأحكامه ، لكل حال وكلّ زمان ، بحيث لا تصلح الأمور إلا به. فجميع ذلك ، يكفي من أراد تصديق الحقّ ، وعمل على طلب الحقّ. فلا كفى الله من لم يكفه القرآن ، ولا شفى الله من لم يشفه الفرقان ، ومن اهتدى به واكتفى ، فإنه رحمة له وخير ، فلذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وذلك لما يحصل فيه من العلم الكثير ، والخير الغزير وتزكية القلوب والأرواح ، وتطهير العقائد ، وتكميل الأخلاق ، والفتوحات الإلهية ، والأسرار الربانية.
[٥٢] (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) فأنا قد استشهدته. فإن كنت كاذبا ، أحلّ بي ما به تعتبرون. وإن