ووضع في عقولهم حسنها ، واستقباح غيرها. فإن جميع أحكام الشرع ، الظاهرة والباطنة ، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم ، الميل إليها. فوضع في قلوبهم ، محبة الحقّ ، وإيثار الحقّ ، وهذا حقيقة الفطرة. ومن خرج عن هذا الأصل ، فلعارض عرض لفطرته ، أفسدها ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي : لا أحد يبدل خلق الله ، فيجعل المخلوق على غير الوضع ، الذي وضعه الله. (ذلِكَ) الذي أمرناك به (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : الطريق المستقيم الموصل إلى الله ، وإلى دار كرامته ، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم ، في جميع شرائعه وطرقه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فلا يتعرفون الدين القيّم ، وإن عرفوه لم يسلكوه.
[٣١] (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين. فإن الإنابة ، إنابة القلب ، وانجذاب دواعيه ، لمراضي الله تعالى. ويلزم من ذلك ، عمل البدن بمقتضى ما في القلب ، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة ، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة ، فلذلك قال : (وَاتَّقُوهُ) فهذا يشمل فعل المأمورات ، وترك المنهيات. وخص من المأمورات الصلاة بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى ، كما قال تعالى في سورة العنكبوت : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فهذا إعانتها على التقوى. ثمّ قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فهذا حثها على الإنابة. وخص من المنهيات أصلها ، والذي لا يقبل معه عمل ، وهو الشرك فقال : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لكون الشرك مضادا للإنابة ، الّتي روحها الإخلاص من كلّ وجه.
[٣٢] ثمّ ذكر حالة المشركين مهجنا لها ومقبحا فقال : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) مع أن الدين واحد ، وهو إخلاص العبادة لله وحده وهؤلاء المشركون ، فرقوه : منهم من يعبد الأوثان والأصنام. ومنهم من يعبد الشمس والقمر. ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين ، ومنهم يهود ، ومنهم نصارى. ولهذا قال : (وَكانُوا شِيَعاً) أي : كل فرقة تحزبت وتعصبت ، على نصر ما معها من الباطل ، ومنابذة غيرهم ومحاربتهم. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من العلوم المخالفة لعلوم الرسل (فَرِحُونَ) به ، يحكمون لأنفسهم بأنه الحقّ ، وإن غيرهم على باطل. وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا ، كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل ، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرق ، بل الدين واحد ، والرسول واحد ، والإله واحد. وأكثر الأمور الدينية ، وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمة. والأخوة الإيمانية ، قد عقدها الله وربطها ، أتم ربط. فما بال ذلك كله يلغى ، ويبنى التفرق والشقاق بين المسلمين على مسائل خفية ، أو فروع خلافية ، يضلل بها بعضهم بعضا ، ويتميز بها بعضهم على بعض؟ فهل هذا إلا من أكبر نزغات الشيطان ، وأعظم مقاصده ، الّتي كاد بها المسلمين؟ وهل السعي في جمع كلمتهم ، وإزالة ما بينهم من الشقاق ، المبني على ذلك الأصل الباطل ، إلا من أفضل الجهاد في سبيل الله ، وأفضل الأعمال المقربة إلى الله؟
[٣٣ ـ ٣٤] ولما أمر تعالى بالإنابة إليه ـ والإنابة المأمور بها ، هي الإنابة الاختيارية ، الّتي تكون في حالي العسر