ضررها على عابديها ، وأنه يوم القيامة ، يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، ومأواهم النار (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦). والعجب ، أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل ، بزعمه أنهم بشر ، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر ، والحجر ، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان ، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه ، طاعة لأعدى عدو له وهو الشيطان. وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). يحتمل أن الضمير في هذا الموضع ، يعود إلى المشركين ، لأنهم مذكورون في اللفظ. والقاعدة في الضمائر ، أن تعود إلى أقرب مذكور. ويكون المعنى : إذا كان يوم القيامة ، وفزع عن قلوب المشركين ، أي : زال الفزع ، وسئلوا حين رجعت إليهم عقولهم ، عن حالهم في الدنيا ، وتكذيبهم للحق الذي جاءت به الرسل ، أنهم يقرون أن ما هم عليه من الكفر والشرك باطل ، وأن ما قال الله ، وأخبرت به عنه رسله ، هو الحق (بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) وعملوا أن الحق لله ، واعترفوا بذنوبهم. (وَهُوَ الْعَلِيُ) بذاته ، فوق جميع المخلوقات ، وقهره لهم ، وعلو قدره ، بما له من الصفات العظيمة ، الجليلة المقدار (الْكَبِيرُ) في ذاته وصفاته. ومن علوه ، أن حكمه تعالى يعلو ، وتذعن له النفوس ، حتى نفوس المتكبرين والمشركين. وهذا المعنى أظهر ، وهو الذي يدل عليه السياق. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الملائكة ، وذلك أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمعته الملائكة ، فصعقوا وخروا لله سجدا. فيكون أوّل من يرفع رأسه ، جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد. فإذا زال الصعق عن قلوب الملائكة ، وزال الفزع فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك الكلام ، الذي صعقوا منه : ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض : قال الحق ، إما إجمالا ، لعلمهم أنه لا يقول إلا حقا. وإما أن يقولوا : قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه ، وذلك من الحق. فيكون المعنى على هذا : أن المشركين الّذين عبدوا مع الله تلك الآلهة ، الّتي وصفنا لكم عجزها ونقصها ، وعدم نفعها بوجه من الوجوه ، كيف صدفوا وصرفوا عن إخلاص العبادة للرب العظيم ، العلي الكبير ، الذي ـ من عظمته وجلاله ـ أن الملائكة الكرام ، والمقربين من الخلق ، يبلغ بهم الخضوع والصعق ، عند سماع كلامه هذا المبلغ ، ويقرون كلهم لله ، أنه لا يقول إلا الحق. فما بال هؤلاء المشركين ، استكبروا عن عبادة من هذا شأنه ، وعظمة ملكه وسلطانه. فتعالى العلي الكبير ، عن شرك المشركين ، وإفكهم ، وكذبهم.
[٢٤] يأمر تعالى ، نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم ، أن يقول لمن أشرك بالله ويسأله عن صحة شركه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم ، لا بد أن يقروا أنه الله. ولئن لم يقروا (قُلِ اللهُ) فإنك لا تجد من يدفع هذا القول. فإذا تبيّن أن الله وحده ، الذي يرزقكم من السموات والأرض ، وينزل لكم المطر ، وينبت لكم النبات ، ويفجر لكم الأنهار ، ويطلع لكم من ثمار الأشجار ، وجعل لكم الحيوانات جميعها ، لنفعكم ورزقكم ، فلم تعبدون من لا يرزقكم شيئا ، ولا يفيدكم نفعا؟ وقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إحدى الطائفتين ، منا ومنكم ، على الهدى ، مستعلية عليه ، أو في ضلال بين ، منغمرة فيه ، وهذا الكلام ، يقوله من تبيّن له الحق ، واتضح له الصواب ، وجزم بالحق الذي هو عليه ، وبطلان ما عليه خصمه. أي : قد شرحنا من الأدلة الواضحة ، عندنا وعندكم ، ما به يعلم علما يقينيا لا شك فيه ، من المحق منّا ، ومن المبطل ، ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير اليقين بعد ذلك ، لا فائدة فيه. فإنك إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق ، بسائر المخلوقات المتصرف فيها بجميع أنواع التصرفات ، المسدي جميع النعم ، الذي رزقهم ، وأوصل إليهم كلّ نعمة ، ودفع عنهم كلّ نقمة ، الذي له الحمد كله ، والملك كله ، وكلّ أحد من الملائكة فمن دونهم ، خاضعون لهيبته ، متذللون لعظمته ، وكلّ الشفعاء ، تخافه ، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه. العلي الكبير ، في ذاته ، وأوصافه ، وأفعاله ، الذي له كلّ كمال ، وكل جلال ، وكلّ جمال ، وكلّ حمد وثناء ومجد. يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه ، وإخلاص العمل له ، وينهي عن عبادة من سواه ، وبين من يتقرب إلى أوثان ، وأصنام ، وقبور ، لا تخلق ، ولا ترزق ، ولا تملك لأنفسها ، ولا لمن عبدها ،