يغل به العنق ، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل. وهذه الأغلال ، التي في الأعناق ، عظيمة (فَهِيَ) قد وصلت (إِلَى الْأَذْقانِ) قد رفعت رؤوسهم إلى فوق (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي : رافعو رؤوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يخفضوها.
[٩] (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) أي : حاجزا يحجزهم عن الإيمان. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) قد غمرهم الجهل والشقاء ، من جميع جوانبهم ، فلم تفد فيهم النذارة.
[١٠] (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) وكيف يأمن من طبع على قلبه ، ورأى الحق باطلا ، والباطل حقا؟ والقسم الثاني : الذين قبلوا النذارة ، وقد ذكرهم بقوله :
[١١] (إِنَّما تُنْذِرُ) أي : إنما تنفع نذارتك ، ويتعظ بنصحك (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : من قصده اتباع الحق ، وما ذكر به (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي : من اتصف بهذين الأمرين ، القصد الحسن في طلب الحق ، وخشية الله تعالى ، فهم الذين ينتفعون برسالتك ، ويزكون بتعليمك. ومن وفق لهذين الأمرين (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) لأعماله الصالحة ، ونيته الحسنة.
[١٢] (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي : نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) من الخير والشر ، وهو : أعمالهم الّتي عملوها وباشروها ، في حال حياتهم. (وَآثارَهُمْ) وهي : آثار الخير ، وآثار الشر ، الّتي كانوا هم السبب في إيجادها ، في حال حياتهم ، وبعد وفاتهم وتلك الأعمال الّتي نشأت من أقوالهم وأفعالهم ، وأحوالهم. فكل خير عمل به أحد من الناس ، بسبب علم العبد ، وتعليمه ، أو نصحه ، أو أمره بالمعروف ، أو نهيه عن المنكر. أو علم أودعه عند المتعلمين ، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته ، أو عمل خيرا ، من صلاة ، أو زكاة ، أو صدقة أو إحسان ، فاقتدى به غيره ، أو عمل مسجدا ، أو محلا من المحال ، الّتي يرتفق بها الناس ، وما أشبه ذلك ، فإنها من آثاره الّتي تكتب له ، وكذلك عمل الشر. ولهذا «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». وهذا الموضع ، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله ، والهداية إلى سبيله ، بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه ، وأنه أسفل الخليقة ، وأشدهم جرما ، وأعظمهم إثما. (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأعمال والنيّات وغيرها (أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي : كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب ، الّتي تكون بأيدي الملائكة ، وهو اللوح المحفوظ.
[١٣] أي : واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك ، الرادين لدعوتك ، مثلا يعتبرون به ، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير. وذلك المثل : أصحاب القرية ، وما جرى منهم من التكذيب لرسل الله ، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله. وتعيين تلك القرية ، لو كان فيه فائدة ، لعينها الله ، فالتعرض لذلك ، وما أشبهه من باب التكلف ، والتكلم بلا علم. ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا الأمر ، تجد عنده من الخبط والخلط. والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ، ما تعرف به ، أن طريق العلم الصحيح ، الوقوف مع الحقائق ، وترك التعرض لما لا فائدة فيه. وبذلك تزكو النفس ،