قرها (يَصْلَوْنَها) أي : يعذبون فيها عذابا ، يحيط بهم من كلّ وجه ، لهم من فوقهم ظلل من النار ، ومن تحتهم ظلل.
[٥٧] (فَبِئْسَ الْمِهادُ) المعد لهم مسكنا ومستقرا (هذا) المهاد ، وهذا العذاب الشديد ، والخزي ، والفضيحة ، والنكال. (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) ماء حار ، قد اشتد حره ، يشربونه ، فتقطّع أمعاؤهم. (وَغَسَّاقٌ) وهو أكره ما يكون من الشراب ، من قيح وصديد ، مر المذاق ، كريه الرائحة.
[٥٨] (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) أي : من نوعه (أَزْواجٌ) أي : عدة أصناف ، من أصناف العذاب ، يعذبون بها ، ويخزون بها.
[٥٩] عند تواردهم على النار ، يشتم بعضهم بعضا ، ويقول بعضهم لبعض : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) النار (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ).
[٦٠] (قالُوا) أي : الفوج المقبل المقتحم : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي : العذاب (لَنا) بدعوتكم لنا ، وفتنتكم ، وإضلالكم ، وتسببكم. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) قرار الجميع ، قرار السوء والشر.
[٦١] ثمّ دعوا على المغوين لهم ، و (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) (٦١). وقال في الآية الأخرى : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).
[٦٢] (وَقالُوا) وهم في النار (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي : كنّا نزعم أنهم من الأشرار ، المستحقين لعذاب النار ، وهم المؤمنون تفقدهم أهل النار ، قبّحهم الله ، هل يرونهم في النار؟
[٦٣] (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦٣) أي : عدم رؤيتنا لهم ، دائر بين أمرين : إما أننا غالطون في عدنا إياهم من الأشرار ، بل هم من الأخيار ، وإنّما كلامنا لهم ، من باب السخرية والاستهزاء بهم. وهذا هو الواقع ، كما قال تعالى لأهل النار : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠). والأمر الثاني : أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب ، وإلا فهم معنا معذبون ولكن تجاوزتهم أبصارنا. فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم ، فتكون العقائد الّتي اعتقدوها في الدنيا ، وكثرة ما حكموا لأهل الإيمان بالنار ، تمكنت من قلوبهم ، وصارت صبغة لها ، فدخلوا النار وهم بهذه الحالة ، فقالوا ما قالوا. ويحتمل أن كلامهم هذا ، كلام تمويه ، كما موهوا في الدنيا ، موهوا حتى في النار. ولهذا يقول أهل الأعراف لأهل النار (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٤٩).
[٦٤] قال تعالى مؤكدا ما أخبر به ، وهو أصدق القائلين : (إِنَّ ذلِكَ) الذي ذكرت لكم (لَحَقٌ) ما فيه شك ولا مرية (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي : «هو تخاصم ونزاع أهل النار بعضهم مع بعض».
[٦٥] (قُلْ) يا أيها الرسول لهؤلاء المكذبين ، إن طلبوا منك ما ليس لك ولا بيدك : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) هذا نهاية ما عندي ، وأما الأمر فلله تعالى ، ولكني آمركم ، وأنهاكم ، وأحثكم على الخير ، وأزجركم عن الشر (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي : ما أحد يؤله ويعبد بحق ، إلا الله (الْواحِدُ الْقَهَّارُ). هذا تقرير لألوهيته ، بهذا البرهان القاطع ، وهو وحدته تعالى ، وقهره لكل شيء. فإن القهر ملازم للوحدة ، فلا يكون اثنان قهاران ، متساويين في قهرهما أبدا. فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد ، الذي لا نظير له ، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده ، كما كان قاهرا وحده. وقرر ذلك بتوحيد الربوبية فقال :
[٦٦] (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي : خالقهما ، ومربيهما ، ومدبرهما بجميع أنواع التدبير. (الْعَزِيزُ) الذي له القوة ، الّتي بها خلق المخلوقات العظيمة. (الْغَفَّارُ) لجميع الذنوب ، صغيرها ، وكبيرها ، لمن تاب إليه ، وأقلع منها. فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد ، دون من لا يخلق ، ولا يرزق ، ولا يضر ، ولا ينفع ، ولا يملك من الأمر شيئا ، وليس له قوة الاقتدار ، ولا بيده مغفرة الذنوب والأوزار.
[٦٧] (قُلْ) لهم ، محذرا ، ومخوفا ، ومنهضا لهم ومنذرا : (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) أي : ما أنبأتكم به من البعث ، والنشور ، والجزاء على الأعمال ، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه ، ولا ينبغي إغفاله.
[٦٨] ولكن (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٦٨) كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب. فإن