شككتم في قولي ، وامتريتم في خبري ، فإني أخبركم بأخبار لا علم لي بها ، ولا درستها في كتاب. فإخباري بها على وجهها ، من غير زيادة ولا نقص ، أكبر شاهد لصدقي ، وأدلّ على حقية ما جئتكم به ، ولهذا قال :
[٦٩] (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) أي : الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) لو لا تعليم الله إياي ، وإيحاؤه إليّ ، ولهذا قال :
[٧٠] (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠) أي : ظاهر النذارة ، جليها ، فلا نذير أبلغ من نذارته صلىاللهعليهوسلم.
[٧١ ـ ٧٢] ثمّ ذكر اختصام الملأ الأعلى فقال : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) على وجه الإخبار (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) أي : مادته من طين (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : سويت جسمه ، وثمّ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). فوطّن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك ، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه ، امتثالا لربهم ، وإكراما لآدم عليهالسلام. فلما تم خلقه في بدنه وروحه ، وامتحن الله آدم والملائكة في العلم ، وظهر فضله عليهم ، أمرهم الله بالسجود.
[٧٣ ـ ٧٤] (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ) لم يسجد (اسْتَكْبَرَ) عن أمر ربه ، واستكبر على آدم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في علم الله تعالى.
[٧٥] (قالَ) الله موبخا ومعاتبا : (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : شرفته ، وكرمته ، واختصصته بهذه الخصيصة ، الّتي اختص بها عن الخلق ، وذلك يقتضي عدم التكبر عليه. (أَسْتَكْبَرْتَ) في امتناعك (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) «أي : ممن علوت على العالمين».
[٧٦] (قالَ) إبليس معارضا لربه ، ومناقضا : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين ، وهذا من القياس الفاسد ، فإن عنصر النار ، مادة الشر والفساد ، والعلو والطيش ، والخفة. وعنصر الطين ، مادة الرزانة ، والتواضع ، وإخراج أنواع الأشجار والنباتات ، وهو يغلب النار ، ويطفئها. والنار ، تحتاج إلى مادة تقوم بها ، والطين قائم بنفسه. فهذا قياس شيخ القوم ، الذي عارض به الأمر الشفاهي ، من الله ، قد تبين غاية بطلانه وفساده. فما بالك بأقيسة التلاميذ ، الّذين عارضوا الحقّ بأقيستهم؟ فإنها كلها ، أعظم بطلانا ، من هذا القياس.
[٧٧] (قالَ) الله له : (فَاخْرُجْ مِنْها) أي : من السماء والمحل الكريم. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي : مبعد مدحور.
[٧٨] (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) أي : طردي وإبعادي (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) دائما أبدا.
[٧٩] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٧٩) لشدة عداوته لآدم وذريته ، ليتمكن من إغواء من قدر الله أن يغويه.
[٨٠ ـ ٨١] (قالَ) الله مجيبا لدعوته ، حيث اقتضت حكمته ذلك : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) حين تستكمل الذرية ، يتم الامتحان.
[٨٢] فلما علم أنه منظر ، بادى ربه ، من خبثه ، بشدة العداوة لربه ولأدم وذريته فقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «أي : بعظمتك وجلالك». يحتمل أن الباء للقسم ، وأنه أقسم بعزة الله ، ليغوينهم كلهم أجمعين.
[٨٣] (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) «أي : هم الّذين أخلصهم الله لطاعته وعصمهم من الغواية لكمال إيمانهم ، وبذلهم أقصى ما في وسعهم في طاعة ربهم». علم «إبليس» أن الله سيحفظهم من كيده. ويحتمل أن الباء للاستعانة ، وأنه لما علم أنه عاجز من كلّ وجه ، وأنه لا يضل أحدا إلا بمشيئة الله تعالى ، استعان بعزة الله ، على إغواء