يضيقه ، على من يشاء ، صالحا أو طالحا ، فرزقه مشترك بين البرية. والإيمان والعمل الصالح يخص به ، خير البرية. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي : بسط الرزق وقبضه ، لعلمهم أن مرجع ذلك ، عائد إلى الحكمة والرحمة ، وأنه أعلم بحال عبيده. فقد يضيق عليهم الرزق لطفا بهم ؛ لأنه لو بسطه لبغوا في الأرض ، فيكون تعالى مراعيا في ذلك ، صلاح دينهم الذي هو مادة سعادتهم وفلاحهم ، والله أعلم.
[٥٣] يخبر تعالى عباده المسرفين «أي : المكثرين من الذنوب» بسعة كرمه ويحثهم على الإنابة ، قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال : (قُلْ) يا أيها الرسول ومن قام مقامه ، من الدعاة لدين الله ، مخبرا للعباد عن ربهم : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب ، والسعي في مساخط علّام الغيوب. (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي : لا تيأسوا منها ، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا ، وتراكمت عيوبنا ، فليس لها طريق يزيلها ، ولا سبيل يصرفها ، فتبقون بسبب ذلك ، مصرين على العصيان ، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن ، ولكن اعرفوا ربكم ، بأسمائه الدالة على كرمه وجوده. واعلموا (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) من الشرك ، والقتل ، والزنا ، والربا ، والظلم ، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : وصفه المغفرة والرحمة ، وصفان لازمان ، ذاتيان ، لا تنفك ذاته عنهما ، ولم تزل آثارهما ، سارية في الوجود ، مالئة للموجود. تسح يداه من الخيرات ، آناء الليل والنهار ، ويوالي النعم والفواضل على العباد في السر والجهار ، والعطاء أحب إليه من المنع ، والرحمة سبقت الغضب وغلبته. ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب ، إن لم يأت بها العبد ، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة ، أعظمها وأجلها ، بل لا سبب لها غيره ، الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح ، والدعاء ، والتضرع ، والتأله ، والتعبد. فهلم إلى هذا السبب الأجلّ ، والطريق الأعظم.
[٥٤] ولهذا أمر تعالى بالإنابة إليه ، والمبادرة إليها فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) بقلوبكم (وَأَسْلِمُوا لَهُ) بجوارحكم. إذا أفردت الإنابة ، دخلت فيها أعمال الجوارح ، وإذا جمع بينهما ، كما في هذا الموضع ، كان المعنى ما ذكرنا. وفي قوله : (إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) دليل على الإخلاص ، وأنه من دون إخلاص ، لا تفيد الأعمال الظاهرة والباطنة ، شيئا. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) مجيئا لا يدفع (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ). فكأنه قيل : ما هي الإنابة والإسلام؟ وما جزئياتهما وأعمالهما؟
[٥٥] فأجاب تعالى بقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) مما أمركم من الأعمال الباطنة ، كمحبة الله ، وخشيته ، وخوفه ، ورجائه ، والنصح لعباده ، ومحبة الخير لهم ، وترك ما يضاد ذلك. ومن الأعمال الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصدقة ، وأنواع الإحسان ، ونحو ذلك ، مما أمر الله به ، وهو : أحسن ما أنزل إلينا من ربنا. فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها ، هو المنيب المسلم. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) ، وكل هذا حثّ على المبادرة ، وانتهاز الفرصة.
[٥٦] ثم حذرهم «ونصحهم» (أَنْ) لا يستمروا على