من أحوالهم. ولهذا قال : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي : يهديهم لطريق الرشد ، والصراط المستقيم ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة. وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق ، وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، الّتي تغسل الذنوب ، وتشفي القلب. (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بالقرآن (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي : صمم عن استماعه وإعراض ، (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي : لا يبصرون به رشدا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالا. فإنهم إذا ردوا الحقّ ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيّا إلى غيّهم. (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون. بمنزلة الذي ينادى وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيا ولا يجيب مناديا. والمقصود : أن الّذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرا ؛ لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم.
[٤٥] يقول تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك الكتاب ، فصنع به الناس ما صنعوا معك ، اختلفوا فيه : فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به. وإن الله تعالى ، لو لا حلمه وكلمته السابقة ، بتأخير العذاب إلى أجل مسمّى لا يتقدم عليه ولا يتأخر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ، بإهلاك الكافرين في الحال ؛ لأن سبب الهلاك ، قد وجب وحق. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي : قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ، فلذلك كذبوه وجحدوه.
[٤٦] (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) وهو العمل الذي أمر الله به ورسوله (فَلِنَفْسِهِ) نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ضرره وعقابه ، في الدنيا والآخرة. وفي هذا ، حثّ على فعل الخير ، وترك الشر ، وانتفاع العاملين ، بأعمالهم الحسنة ، وضررهم بأعمالهم السيئة ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى. (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فيحمّل أحدا فوق سيئاته.
[٤٧] هذا إخبار عن سعة علمه تعالى واختصاصه بالعلم الذي لا يطلع عليه سواه فقال : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : جميع الخلق يرد علمهم إلى الله تعالى ، ويقرون بالعجز عنه ، الرسل ، والملائكة ، وغيرهم. (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي : وعائها الذي تخرج منه. وهذا شامل لثمرات جميع الأشجار الّتي في البلدان والبراري ، فلا تخرج ثمرة شجرة من الأشجار ، إلا وهو يعلمها تفصيليا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) من بني آدم وغيرهم ، من أنواع الحيوانات ، إلا بعلمه (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). فكيف سوّى المشركون به تعالى ، من لا علم عنده ، ولا سمع ولا بصر؟ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : المشركين به يوم القيامة توبيخا وإظهارا لكذبهم فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكائِي) الّذين زعمتم أنهم شركائي ، فعبدتموهم ، وجادلتم على ذلك ، وعاديتم الرسل لأجلهم؟ (قالُوا) مقرين ببطلان إلهيتهم وشركتهم مع الله : (آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي : أعلمناك يا ربنا ، وأشهد علينا أنه ما منّا أحد يشهد بصحة إلهيتهم وشركتهم ، فكلنا الآن رجعنا إلى بطلان عبادتها ، وتبرأنا منها ، ولهذا قال :
[٤٨] (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) من دون الله ، أي : ذهبت عقائدهم وأعمالهم ، الّتي أفنوا فيها أعمارهم على عبادة غير الله ، وظنوا أنها تفيدهم ، وتدفع عنهم العذاب ، وتشفع لهم عند الله. فخاب سعيهم ، وانتقض ظنهم ، ولم تغن عنهم شركاؤهم شيئا (وَظَنُّوا) أي : أيقنوا في تلك الحال (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : منقذ ينقذهم ، ولا مغيث ، ولا ملجأ. فهذه عاقبة من أشرك بالله غيره ، بيّنها الله لعباده ، ليحذروا الشرك به.
[٤٩ ـ ٥١] هذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو ، وعدم صبره وجلده ، لا على الخير ، ولا على الشر ، إلا من نقله الله من هذه الحال ، إلى حال الكمال ، فقال : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي : لا يمل دائما ، من دعاء الله ، بالفوز ، والمال ، والولد ، وغير ذلك ، من مطالب الدنيا. ولا يزال يعمل على ذلك ، ولا يقتنع بقليل ولا بكثير منها. فلو حصل له من الدنيا ما حصل ، لم يزل طالبا للزيادة. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : المكروه ، كالمرض ، والفقر ، وأنواع البلايا (فَيَؤُسٌ) (قَنُوطٌ) أي : ييأس من رحمة الله تعالى ، ويظن أن هذا البلاء ، هو القاضي عليه بالهلاك ،