ما يأمر به كتابهم ، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم. فإنهم تباغضوا وتحاسدوا ، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ، فوقع الاختلاف. فاحذروا ، أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي : بتأخير العذاب القاضي ، إلى أجل مسمّى (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولكن حكمته وحلمه ، اقتضى تأخير ذلك عنهم. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : الّذين ورثوهم ، وصاروا خلفا لهم ، ممن ينتسب إلى العلم منهم. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي : لفي اشتباه كثير ، يوقع في الاختلاف ، حيث اختلف سلفهم ، بغيا وعنادا ، فإن خلفهم ، اختلفوا شكا وارتيابا ، والجميع ، مشتركون في الاختلاف المذموم.
[١٥] (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي : فللدين القويم ، والصراط المستقيم ، الذي أنزل الله به كتبه ، وأرسل رسله ، فادع إليك أمتك ، وحضهم عليه ، وجاهد عليه من لم يقبله. (وَاسْتَقِمْ) بنفسك (كَما أُمِرْتَ) أي : استقامة موافقة لأمر الله ، لا تفريط ولا إفراط ، بل امتثالا لأوامر الله ، واجتنابا لنواهيه ، على وجه الاستمرار على ذلك. فأمره بتكميل نفسه ، بلزوم الاستقامة ، وبتكميل غيره ، بالدعوة إلى ذلك. ومن المعلوم أن أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ، أمر لأمته ، إذا لم يرد تخصيص له. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي : أهواء المنحرفين عن الدين ، من الكفرة أو المنافقين. إما باتباعهم على بعض دينهم ، أو بترك الدعوة إلى الله ، أو بترك الاستقامة فإنك إن اتبعت أهواءهم ، من بعد ما جاءك من العلم ، إنك إذا لمن الظالمين. ولم يقل : «ولا تتبع دينهم» لأن حقيقة دينهم ، الذي شرعه الله لهم ، هو دين الرسل كلهم ، ولكنهم لم يتبعوه ، بل اتبعوا أهواءهم ، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا. (وَقُلْ) لهم ، عند جدالهم ومناظرتهم : (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم ، الدال على شرف الإسلام وجلالته ، وهمينته على سائر الأديان ، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب ، أنهم عليه ، جزء من الإسلام. وفي هذا ، إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ، ببعض الكتب ، أو ببعض الرسل دون غيره ، فلا يسلم لهم ذلك. لأن الكتاب الذي يدعون إليه ، والرسول الذي ينتسبون إليه ، من شرطه ، أن يكون مصدقا بهذا القرآن ، وبمن جاء به. فكتابنا ، ورسولنا ، لم يأمرانا ، إلّا بالإيمان بموسى ، وعيسى ، والتوراة ، والإنجيل ، التي أخبر بها ، وصدق بها ، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته. وأما مجرد التوراة والإنجيل ، وموسى ، وعيسى ، الّذين لم يوصفوا لنا ، ولم يوافقوا لكتابنا ، فلم يأمرنا بالإيمان بهم. وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي : في الحكم فيما اختلفتم فيه ، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم ، يا أهل الكتاب ، من العدل بينكم ، ومن العدل في الحكم ، بين أهل الأقوال المختلفة ، من أهل الكتاب وغيرهم ، أن يقبل ما معهم من الحقّ ، ويرد ما معهم من الباطل. (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي : هو رب الجميع ، لستم بأحق به منّا. (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) من خير وشر (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي : بعد ما تبينت الحقائق ، واتضح الحقّ من الباطل ، والهدى من الضلال ، لم يبق للجدل والمنازعة محل. لأن المقصود من الجدال ، إنّما هو بيان الحقّ من الباطل ، ليهتدي الراشد ، ولتقوم الحجة على الغاوي. وليس المراد بهذا ، أن أهل الكتاب لا يجادلون ، كيف والله يقول : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وإنّما المراد ما ذكرنا. (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يوم القيامة ، فيجزي كلّا بعمله ، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب. وهذا تقرير لقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ).
[١٦] فأخبر هنا أن (الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) بالحجج الباطلة ، والشبه المتناقضة (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي : من بعد ما استجاب لله أولو الألباب والعقول ، لما بين لهم من الآيات القاطعة ، والبراهين الساطعة. فهؤلاء المجادلون للحق ، من بعد ما تبين (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي : باطلة مدفوعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنها مشتملة على رد الحقّ ، وكل ما خالف الحقّ ، فهو باطل. (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لعصيانهم وإعراضهم عن حجج الله وبيناته وتكذيبها. (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هو أثر غضب الله عليهم ، فهذه عقوبة كل مجادل للحق بالباطل.
[١٧] لما ذكر تعالى ، أن حججه واضحة بينة ، بحيث استجاب لها كل من فيه خير ، ذكر أصلها وقاعدتها ، بل