سورة الأحقاف
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[٢] هذا ثناء منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيم له ، وفي ضمن ذلك إرشاد العباد إلى الاهتداء بنوره ، والإقبال على تدبر آياته ، واستخراج كنوزه. ولما بين إنزال كتابه المتضمن للأمر والنهي ، ذكر خلقه السماوات والأرض ، فجمع بين الخلق والأمر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، وكما قال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ). فالله تعالى ، هو الذي خلق المكلفين ، وخلق مساكنهم ، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، ثمّ أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرهم ونهاهم ، وأخبرهم أن هذه الدار دار أعمال وممر للعمال ، لا دار إقامة ، لا يرحل عنها أهلها. وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرار ، وموطن الخلود والدوام ، وإنّما أعمالهم الّتي عملوها في هذه الدار ، سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملا موفورا.
[٣] وأقام تعالى الأدلة على تلك الدار وأذاق العباد نموذجا من الثواب والعقاب العاجل ، ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب ، والهرب من المرهوب ، ولهذا قال هنا : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي : لا عبثا ، ولا سدى ، بل ليعرف العباد عظمة خالقها ، ويستدلوا على كماله ، ويعلموا أن الذي خلقهما ، قادر على أن يعيد العباد بعد موتهم للجزاء ، وأن خلقهما وبقاءهما ، مقدر إلى ساعة معينة (وَأَجَلٍ مُسَمًّى). فلما أخبر بذلك ـ وهو أصدق القائلين ـ وأقام الدليل ، وأنار السبيل ، أخبر ـ مع ذلك ـ أن طائفة من الخلق قد أبوا إلا إعراضا عن الحقّ ، وصدوفا عن دعوة الرسل ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ). وأما الّذين آمنوا ، فلما علموا حقيقة الحال قبلوا وصايا ربهم ، وتلقوها بالقبول والتسليم ، وقابلوها بالانقياد والتعظيم ، ففازوا بكل خير ، واندفع عنهم كل شر.
[٤] أي : (قُلْ) لهؤلاء الّذين أشركوا بالله ، أوثانا وأندادا ، لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ، ولا نشورا. قل لهم ـ مبينا عجز أوثانهم ، وأنها لا تستحق شيئا من العبادة ـ : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ). هل خلقوا من أجرام السماوات شيئا؟ هل خلقوا جبالا؟ هل أجروا أنهارا؟ هل نشروا حيوانا؟ هل أنبتوا أشجارا؟ هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ لا شيء من ذلك ، بإقرارهم على أنفسهم ، فضلا عن غيرهم ، فهذا دليل عقلي قاطع على أن كل من سوى الله ، فعبادته باطلة. ثمّ ذكر انتفاء الدليل النقلي ، فقال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) الكتاب يدعو إلى الشرك ، (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك ، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ، ونهوا عن الشرك به. وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ